تشهد المجتمعات العربية تحولًا رقميًا متسارع الوتيرة، حيث أصبحت التكنولوجيا، وخاصة بالنسبة للجيل الناشئ، مكونًا أساسيًا في تفاصيل الحياة اليومية، فمع الانتشار الواسع للأجهزة الذكية وشبكة الإنترنت – الذي تجاوزت نسبة مستخدميه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 70% بحلول عام 2022 (WISE, 2025) – تزداد الحاجة لإمعان النظر في التأثيرات العميقة التي تخلفها هذه التقنيات على نمو الأطفال في مختلف جوانبه: الإدراكي، الاجتماعي، العاطفي، واللغوي.
تسعى هذه المقالة إلى تقديم تحليل نقدي مستنير يعتمد على استعراض شامل لأحدث الدراسات والأبحاث في هذا المجال، مع إيلاء اهتمام خاص للسياق الثقافي والاجتماعي الذي يميز العالم العربي.
التأثيرات السلبية للتكنولوجيا على نمو الأطفال
ضعف الانتباه والتركيز
كشفت النتائج أن الأطفال الذين يستهلكون أكثر من ثلاث ساعات يوميًا على هذه المنصات الرقمية يُظهرون تراجعًا ملحوظًا في القدرات العقلبة لديهم، وهو ما ينعكس في صعوبة عزل المعلومات ذات الصلة عن المشتتات المحيطة، بالإضافة إلى تباطؤ في سرعة المعالجة للمعلومات الجديدة، ويرافق هذا الضعف المعرفي انخفاض ملحوظ في مستوى الانتباه المستمر، فضلًا عن زيادة في وتيرة السلوكيات الاندفاعية والعدوانية (Medeor Hospital, 2025). وتتلاقى هذه النتائج مع مراجعة شاملة أجرتها منظمة الصحة العالمية حول تأثير وقت الشاشة على تطور الدماغ، والتي أكدت أن البيئة الرقمية الغنية بالمثيرات السريعة والمتلاحقة قد تُعيق نمو آليات التنظيم الذاتي والانتباه المستمر الضرورية لوظائف الدماغ التنفيذية.
من المثير للاهتمام أن هذه الأعراض، التي تشمل ضعف الانتباه وصعوبة التركيز والاندفاعية، تتداخل مع بعض الخصائص الأساسية لاضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD) في حين أن الدراسة المذكورة لم تفحص بشكل مباشر العلاقة بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وADHD، إلا أن النتائج التي تشير إلى تراجع القدرات العقلية وسرعة المعالجة قد تزيد من خطر ظهور أعراض شبيهة بـ ADHD لدى الأطفال المعرضين للخطر، أو قد تؤدي إلى تفاقم الأعراض الموجودة بالفعل إن التحفيز المستمر والمتغير الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي قد يقلل من قدرة الأطفال على تطوير آليات الانتباه الانتقائي والتركيز المطول اللازمة في البيئات غير الرقمية، مما يستدعي مزيدًا من البحث لفهم هذه العلاقة المعقدة بشكل أعمق.
التأثير على النمو اللغوي
يُعد التعرض المفرط للشاشات في مرحلة الطفولة المبكرة عامل خطر كبير يُهدد مسار النمو اللغوي الطبيعي والمتكامل لدى الأطفال. فقد كشفت الأبحاث عن وجود صلة وثيقة بين زيادة وقت الشاشة وتأخر ملحوظ في اكتساب المفردات الأساسية، بالإضافة إلى ضعف في تطور اللغة التعبيرية التي تمكن الطفل من التعبير عن احتياجاته وأفكاره بوضوح (Frontiers, 2024). والأكثر إثارة للقلق، أن الدراسات تشير إلى أن الأطفال الذين يقضون أكثر من ساعتين يوميًا أمام الشاشات غالبًا ما يعانون من تأخر في تطوير مهارات التواصل الأساسية مقارنة بأقرانهم الذين ينخرطون في تفاعلات مباشرة وغنية مع البالغين (PMC, 2025).
يتجاوز تأثير وقت الشاشة على النمو اللغوي مجرد اكتساب المفردات وبناء الجمل؛ بل يمتد ليشمل تطور اضطراب التواصل الاجتماعي العملي، يشير هذا المصطلح إلى صعوبات في استخدام اللغة في السياقات الاجتماعية المختلفة، مثل فهم الإشارات غير اللفظية، وتبادل الأدوار في المحادثة، وتكييف اللغة لتناسب المستمع، وفهم المعاني الضمنية، إن البيئة الرقمية غالبًا ما تفتقر إلى هذه التفاعلات الاجتماعية المعقدة والدقيقة التي تعد حيوية لتنمية هذه الجوانب العملية من اللغة؛ فالتفاعلات المباشرة مع البالغين توفر نموذجًا حيًا لهذه المهارات وتمنح الطفل فرصًا لممارستها وتلقي التغذية الراجعة الفورية، وهو ما قد يفقده الأطفال الذين يقضون معظم وقتهم أمام الشاشات، وبالتالي فإن الحد من وقت الشاشة وتشجيع التفاعلات اللغوية الغنية والمباشرة في السنوات الأولى من العمر يمثل ضرورة حتمية لضمان نمو لغوي واجتماعي سليم ومتكامل.
الاضطرابات النفسية والعاطفية
يُشكل الاستخدام المكثف للتكنولوجيا في مرحلة الطفولة والمراهقة تهديدًا متزايدًا للصحة النفسية والعاطفية لهذه الفئة العمرية الحساسة. فقد ربطت العديد من الدراسات بين قضاء وقت طويل أمام الشاشات وارتفاع ملحوظ في معدلات القلق والاكتئاب لدى الأطفال واليافعين. وفي تقرير حديث نشرتهHello Pediatrics (2025)، أظهرت النتائج أن الأطفال الذين ينغمسون في استخدام الشاشات لساعات طويلة بشكل يومي يواجهون صعوبات متزايدة في تنظيم مشاعرهم، كما أنهم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بنسبة تصل إلى 30% مقارنة بأقرانهم الذين يمارسون استخدامًا متوازنًا للتكنولوجيا.
بالإضافة إلى التأثيرات على الصحة النفسية الداخلية، يرتبط الاستخدام المفرط للتكنولوجيا بظهور وتفاقم المشاكل السلوكية لدى الأطفال، وعلى رأسها العدوانية، إن التعرض المستمر لمحتوى عنيف أو مثير للانفعال عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية يمكن أن يسهم في تنمية سلوكيات عدوانية لدى الأطفال، سواء كانت عدوانية لفظية أو جسدية، كما أن قلة التفاعل الاجتماعي المباشر والاعتماد المتزايد على التواصل الرقمي قد يحد من قدرة الأطفال على تطوير مهارات حل النزاعات بشكل سلمي وتنظيم انفعالات الغضب لديهم، وبالتالي فإن الإفراط في استخدام التكنولوجيا لا يؤثر في الصحة النفسية الداخلية للطفل فقط، بل يمتد ليشمل مظاهر سلوكية خارجية تؤثر على تفاعلاته مع الآخرين وبيئته الاجتماعية بشكل عام. إن فهم هذه العلاقة المعقدة بين وقت الشاشة والمشاكل النفسية والسلوكية، بما في ذلك العدوانية، يمثل خطوة حاسمة نحو تطوير استراتيجيات وقائية وتدخلات فعالة لحماية صحة أطفالنا النفسية والاجتماعية.
التأثيرات الإيجابية الكامنة للتكنولوجيا في تطور الطفل العربي:
على الرغم من المخاوف المشروعة التي تثيرها الآثار السلبية المحتملة للاستخدام غير المنضبط للتكنولوجيا، إلا أن هذه الأدوات الرقمية تحمل في طياتها فرصًا استثنائية لتعزيز جوانب متعددة من نمو الطفل العربي، شريطة توظيفها بوعي وتوازن.
تنمية التعلم التفاعلي والشخصي : تشير الدراسات الحديثة إلى الدور المحوري الذي يمكن أن تؤديه التطبيقات التعليمية التفاعلية في إثراء تجربة التعلم لدى الأطفال، فمنصات مثل Kalimah Center (2025) تقدم أدوات مبتكرة لتنمية مهارات القراءة والكتابة باللغة العربية بطرق جذابة وتفاعلية، تحفز الطفل على الاستكشاف والمشاركة النشطة في العملية التعليمية.
علاوة على ذلك، فإن تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي في تصميم المناهج التعليمية الشخصية، كما هو الحال في مبادرة “المدرسة الرقمية” في دولة الإمارات العربية المتحدة (Kortext, 2025)، يمثل نقلة نوعية في تلبية الاحتياجات الفردية لكل طفل. هذه المناهج المتكيفة تسمح للأطفال بالتقدم في التعلم وفقًا لسرعتهم وقدراتهم الخاصة، مما يعزز فهمهم العميق للمفاهيم ويقلل من الشعور بالإحباط أو الملل الذي قد يصاحب طرق التعلم التقليدية.
تمكين الجيل الرقمي بمهارات المستقبل: في خضم التحول الرقمي المتسارع الذي يشهده عالمنا، يصبح إتقان المهارات الرقمية في سن مبكرة ضرورة حتمية لإعداد أطفالنا لمستقبل يرتكز بشكل أساسي على التكنولوجيا.
لا يقتصر الأمر على مجرد استخدام الأجهزة والتطبيقات، بل يشمل اكتساب القدرة على البرمجة، تطوير مهارات التفكير النقدي لتحليل المعلومات وتقييمها، وتعزيز القدرة على حل المشكلات المعقدة بطرق إبداعية، إن دمج هذه المهارات في المراحل التعليمية المبكرة يمنح الأطفال الأدوات اللازمة للنجاح في سوق العمل المستقبلي ويجعلهم مسهمين فاعلين في الاقتصاد الرقمي.
توصيات الخبراء لتنظيم استخدام التكنولوجيا لدى الأطفال في السياق العربي:
يجمع الخبراء على أهمية وضع إرشادات واضحة ومناسبة للعمر لتنظيم استخدام الأطفال للتكنولوجيا، مع الأخذ في الاعتبار الخصائص النمائية لكل مرحلة:
- المرحلة العمرية المبكرة (أقل من سنتين): توصي الهيئات المتخصصة بشدة بتجنب تعرض الأطفال في هذه المرحلة العمرية للشاشات بشكل كامل، نظرًا لأهمية التفاعلات الحسية المباشرة والتواصل الجسدي في تطورهم الحسي والحركي والاجتماعي والعاطفي (ECA, 2025).
- مرحلة ما قبل المدرسة (من سنتين إلى خمس سنوات): يقترح الخبراء تحديد وقت الشاشة بما لا يزيد عن ساعة واحدة يوميًا، مع التأكيد الشديد على ضرورة الإشراف الأبوي المباشر لضمان اختيار محتوى مناسب وقيم، وتشجيع الطفل على التفاعل مع المحتوى وطرح الأسئلة.
- مرحلة الطفولة المتأخرة والمراهقة (من ست إلى ثماني عشرة سنة): ينصح بتحديد وقت الشاشة بساعتين كحد أقصى يوميًا، مع إيلاء اهتمام خاص لنوعية المحتوى الذي يتعرض له الأطفال والمراهقون، يجب تشجيعهم على اختيار محتوى تعليمي وثقافي وإبداعي، وتوجيههم نحو الاستخدام المسؤول والواعي للتكنولوجيا (وزارة الصحة السعودية، 2025).
تعزيز التفاعل الاجتماعي المباشر كأولوية: يؤكد الخبراء على الدور الحيوي للأنشطة الاجتماعية المباشرة في النمو الشامل للطفل؛ فاللعب الجماعي، والقراءة التفاعلية مع الأهل، والمشاركة في الأنشطة المجتمعية تساهم في تطوير المهارات الاجتماعية والعاطفية واللغوية بشكل لا يمكن للشاشات أن تحله محله (Frontiers, 2024). لذا، يجب على الأهل والمربين إعطاء الأولوية لهذه التفاعلات الحقيقية وتخصيص وقت كافٍ لها في جدول الطفل اليومي.
الاستخدام الهادف للتكنولوجيا في التعليم: ينصح الخبراء بالتمييز بين الاستهلاك السلبي للمحتوى الترفيهي والاستخدام الهادف للتكنولوجيا لأغراض تعليمية بحتة، يجب تشجيع اختيار التطبيقات والألعاب ذات المحتوى التعليمي الموثوق التي تنمي مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات والإبداع، وتحويل وقت الشاشة إلى فرصة للتعلم النشط والاستكشاف.
تمكين الأطفال بالثقافة الرقمية ومهارات السلامة: لا يقل أهمية عن تنظيم وقت الشاشة تزويد الأطفال بالمعرفة والمهارات اللازمة للتعامل الآمن والمسؤول مع العالم الرقمي، يتضمن ذلك تعليمهم قواعد السلامة الرقمية، وكيفية حماية خصوصيتهم وبياناتهم الشخصية، والتعامل بحذر مع وسائل التواصل الاجتماعي وتجنب التنمر الإلكتروني والمحتوى غير اللائق.
التحديات الثقافية الفريدة في العالم العربي وتأثيرها على التفاعل مع التكنولوجيا:
يكتسب موضوع تأثير التكنولوجيا على الأطفال في العالم العربي أبعادًا إضافية نظرًا للخصوصيات الثقافية والاجتماعية التي تميز المنطقة؛ فالنمط الأسري الذي غالبًا ما يكون أكثر ترابطًا وتدخلًا، والقيم الدينية والاجتماعية المحافظة، تلعب دورًا هامًا في تشكيل كيفية تفاعل الأطفال والأسر مع الوسائط الرقمية، على سبيل المثال، قد يكون هناك قيود اجتماعية مختلفة على أنواع المحتوى الذي يعتبر مقبولًا للأطفال، وقد تختلف مستويات الإشراف الأبوي وأنماطه، في هذا السياق، يؤكد الباحثون على ضرورة تطوير استراتيجيات تدخلية وبرامج توعية تأخذ بعين الاعتبار هذه الفوارق الثقافية الدقيقة لضمان فعاليتها واستدامتها (UNESCO, 2024).
قائمة المراجع:
Hello Pediatrics. (2025). The Impact of Screen Time on Child Development in 2024. Retrieved from https://hellopediatrics.com/the-impact-of-screen-time-on-child-development-in-2024/
Medeor Hospital. (2025). UAE: Increased social media use cause low attention span, higher aggression in children. Retrieved from https://medeor.ae/news/uae-increased-social-media-use-cause-low-attention-span-higher-aggression-in-children/
PMC. (2025). Impacts of technology on children’s health: a systematic review. Retrieved from https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC9273128/
UNESCO. (2024). The Impact of Digital Technology on Cognitive Processes and Learning Outcomes in Early Childhood: Evidence from Neuroscience. Retrieved from https://solportal.ibe-unesco.org/articles/the-impact-of-digital-technology-on-cognitive-processes-and-learning-outcomes-in-early-childhood-evidence-from-neuroscience/
WISE. (2025). Modern World’s Characteristics and Impact on Arabic Literacy Education. Retrieved from https://www.wise-qatar.org/modern-worlds-characteristics-and-impact-on-arabic-literacy-education/
Frontiers. (2024). Weekend screen use of parents and children associates with child language skills. Retrieved from https://www.frontiersin.org/journals/developmental-psychology/articles/10.3389/fdpys.2024.1404235/full
Kalimah Center. (2025). Top 19 Arabic Learning Apps For Kids: Reading, Writing, Listening, And Speaking. Retrieved from https://kalimah-center.com/arabic-learning-apps-for-kids/
Kortext. (2025). Case Study – The Arab Academy for Science, Technology. Retrieved from https://kortext.com/success-stories/arab-academy-for-science-technology-maritime-transport-egypt/
هيئة أبو ظبي للطفولة المبكرة. (2025). دليل حماية الطفل على الإنترنت. https://2u.pw/xrj1EEM