الحزن المحروم من حق التعبير عنه (Disenfranchised grief)

 

حياتنا ملوّنة بانفعالات وحالات مختلفة قد نمرّ بها في كل يوم؛ فرح وحزن، ابتهاج وكآبة، راحة وتعب، شدة ورخاء، لقاء وفراق، امتلاك وفقد… ونحو ذلك

لعلّك ترتاح عندما تعبّر عمّا تمرّ به وتسعد بالمشاركة الانفعالية من الآخرين؛ فلو مات شخص عزيز لوجدت نفسك تُفصح عن حزنك وألمك، وعندما تجد من يواسيك ويتفهّمك ويصغي إليك ويتعاطف معك، فهذا سيسهم في تخفيف معاناتك وستَعْبُر مراحل الحزن عبورًا صحيًا.

تخيّل، عزيزي القارئ، أن تحزن، ولكنك تخشى الإفصاح والتعبير عن حزنك؛ فلا تسمحُ لعينك أن تَدمع، ولا لصوت الألم والأسى أن يُسمَع…

إنها حالة صعبة جدًا، تتأرجح فيها بين مشاعر قد يصعب عليك أن تسمّيها، وقد تجد نفسك في حالة فوضى المشاعر، وذلك كلّه لأنّ لا تستطيع أن تفصح عمّا تمرّ به.

الحزن المحروم من الحقوق ينشأ من خسارة لا يُعترَف بها علنًا، أو لا يمكن الاعتراف بها أو الحداد عليها علنًا أو دعمها اجتماعيًا. (Selby, 2007, p.768)

إنّه حزن لا يعترف به المجتمع لعدم تقدير أفراد المجتمع للخسارة ومعاناة مَن خسِر، أو عدم فهمها أو سوء فهمها أحيانًا، وفي بعض الأحيان لا يُعلَن عنه خشية ما يترتب على إعلانه والاعتراف به وإظهار التعاطف من عواقب وخيمة كحالات الاختفاء القسري، فنجد ذوي المختفي قسريًا يكبتون مشاعرهم بما تحويه من حزن وخوف وغضب…، ويفضّلون تعمية مَن حولهم عنها، على الرغم مما يعتريهم وَهُم في حالة الفقدان الغامض، إذ تشير بوس (Boss, 2018) إلى أن هذا النوع من الفقدان يعدّ أكثر أنواع الفقدان إرهاقًا؛ لعدم وجود دليل على النهاية.

سوف تجد، عزيزي القارئ، في هذه المقالة وصفًا موجزًا لهذا النوع من الحزن، وأمثلة له، وإرشادات للتعامل معه.

ما المقصود بالحزن المحروم من حق التعبير عنه؟

الحقوق تشبه التذاكِر شبهًا كبيرًا؛ فكما أنّ حاملي التذاكِر أحرار في استخدام التذكرة أو عدم استخدامها، فأصحاب الحقوق أحرار في ممارسة حقوقهم أو عدم ممارستها، وكما لا يُلزَم أحد باستخدام التذكرة لا يُلزَم أحد بممارسة حقٍ ما، ولكن كما يجب منح حامل التذكرة حق الدخول أو الحصول على مقعد عندما يقدم تذكرة، فإنّ الآخرين ملزَمون باحترام حق ما من خلال السماح لحامله بممارسته عندما يختار هو ذلك، ولا يجوز للآخرين التدخل في ممارسة هذا الحق أو منعه، ومن هذا المنطلق؛ فإن الحق في الحزن يخوّل الشخص المكلوم أن يحزن عندما يحتاج دون تدخل من الآخرين. (Attig, 2004, p.198)

اقترح دوكا (1989) أن الحزن المحروم يحدث عبر ثلاثة أنماط: (1) عدم الاعتراف بالعلاقة، (2) عدم الاعتراف بالخسارة، (3) استبعاد الحزين، وأضاف لاحقًا (4) وصمة العار التي يُلحقها المجتمع بسبب الوفاة و(5) الطريقة التي يتعامل بها الحزين مع حزنه. (Doka, 2008, As stated in Turner & Stauffer, 2024, p.3)

أمثلة للحزن المحروم من حق التعبير عنه:

  1. موت الزوجة: لا يُفصِح الرجل عن حزنه على موت زوجته في معظم الأحيان؛ لأن ذلك قد يكون غير مقبول في ثقافة مجتمعه، وقد يَصِمُه بالضعف، وقد يُلام من بعض أفراد مجتمعه إن أفصح عن حزنه لكونه رجلًا، إذ إنّ المتوقع منه، وفق ثقافتهم، ألّا يحزن وأن يتزوج زوجة ثانية بسرعة بعد وفاة زوجته، وقد تزداد ضغوط المجتمع في هذا السياق عندما يكون لدى الزوج أطفال صغار.
  2. موت الزوجة الثانية التي لم يعلن الزوج زواجه بها: يخشى الرجل التعبير عن حزنه عند موت زوجته الثانية التي تزوجها زواجًا شرعيًا، لكنه أخفى هذا الزواج عمّن حوله ولم يعلنه، وهنا يكون حزنه ممتزجًا بالخوف وتكون معاناته شديدة؛ لعدم الاعتراف بالعلاقة، والخوف من الوصمة التي قد تلحق به كون الزواج السرّي ليس مقبولًا في المجتمع، وكذلك تكون معاناة الزوجة التي يموت زوجها، ويضاف إلى ذلك الغضب لعدم التعاطف معها وصعوبة الحصول على حقوقها لأنها كانت زوجته سرًا.
  3. موت الطليق: قد تحزن المطلَّقة عند موت الطليق، ولكنها تواجه صعوبة في التعبير عن حزنها، وقد يضاف إلى ذلك الندم والشعور بالذنب حِيال بعض المواقف قبل الطلاق، وتزداد الصعوبة حين يكون الصراع قبل الطلاق أو بعده قد شاع في البيئة المحيطة بها، ومن ثَم تفضّل عدم الإفصاح عن مشاعرها، وهذا ينطبق أيضًا على المطلّق حين تموت المطلّقة.
  4. موت المنتحِرين: قد تتجنب أسرة المنتحِر الإفصاح عن حزنهم للوصمة المرتبطة بالانتحار في المجتمع؛ فتُفضّل الأسرة عدم الإفصاح تجنبًا للكلام الذي قد يقوله أفراد المجتمع من حيث لوم الأسرة، واستنكار الحدث، وعدم التعاطف، وتركيز الناس على العار الذي يلحق بالأسرة لانتحار أحد أفرادها.
  5. موت المختفين قسريًا: قد يخشى ذوو المختفي قسريًا التعبير عن مشاعرهم بما تحويه من حزن وخوف وغضب عندما يصلهم خبر موته؛ لأن الإفصاح عن الحزن قد يعرّضهم للخطر، ويخشون تكرار هذه الخبرة المؤلمة مع فرد آخر من أسرة ذوي المفقود.[1]
  6. موت المرضى المقعدين في فراشهم الذين يشكّلون عبئًا على مقدمي الرعاية: قد يخفي مقدم الرعاية حزنه على مريض في أسرته مات بعد معاناته مع مرض أتعَبَه وأتعَبَ مَن حوله؛ لأن بعض أفراد المجتمع قد يشيرون إلى أنه ينبغي أن يفرح لانتهاء معاناة المريض ومعاناة مقدم الرعاية أيضًا ويقولون “مات واستراح وأراح”، وقد يُطلب إلى مقدم الرعاية أن يزيل كل ما له صلة بالمريض فورًا ليعيش حياته من جديد بدون السماح له بالحزن أو تقدير مشاعره في هذه المرحلة.
  7. موت صديق افتراضي: قد يحزن شخص عندما يسمع خبر وفاة صديق افتراضي في وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنه لا يستطيع الإفصاح عنه حزنه؛ لعدم اعتراف المجتمع بهذه العلاقة كونها افتراضية، وقد يُقابَل بالاستنكار أو الاستهزاء عندما يحزن عليه ما يؤدي إلى أن يُحرم من حق التعبير عن حزنه.
  8. موت أحد أفراد الأسرة وهو مطرود منها: يُطرد أحد أفراد الأسرة في بعض الأحيان لصراعه معها، أو لسلوكه غير المتسق مع قيمها ومعاييرها، أو لأسباب أخرى، وقد يحزن معظم أفراد الأسرة أو بعضهم عندما يسمعون خبر وفاته، لكنهم لا يُفصحون عن حزنهم؛ لأن ذلك قد يجعلهم في منزلة الخائنين لأسرتهم وكأنهم يؤيدون موقف الفرد المطرود سرًا، وقد يخشون الطرد أيضًا أو تضرُّر علاقتهم بأسرتهم ما يؤدي إلى عدم التعبير عن حزنهم.
  9. موت شخص مشهور لم نقابله: قد يتابع الفرد في حياته أشخاصًا من المشهورين في مجال من المجالات، عبر الراديو أو التلفاز أو وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يؤثر في حياة الفرد تأثيرًا إيجابيًا كبيرًا، ومن ثَمّ يحظى بمكانة لديه وإن لم يقابله في الواقع، ولا يعترف المجتمع في بعض الأحيان بهذه الخسارة أو لا يُوليها أهمية؛ فلا يستطيع الفرد الإفصاح عن حزنه خشية اللوم.
  10. موت حيوان أليف: لا تقتصر علاقة الفرد في حياته على البشر بل تمتد إلى كل ما يحيط به، ومن ثَمّ قد يصحبه في منزله أو في مكان عمله حيوان أليف، كقطة أو عصفور ونحو ذلك، ويكون هذا الحيوان الأليف جزءًا من حياته، وعند موته ربما لا يستطيع الفرد الإفصاح عن حزنه؛ لأن المجتمع لا يعترف بهذه الخسارة أو يقلل قيمتها.

ماذا تفعل إن وجدت نفسك في حالة حزن محروم من حق التعبير عنه؟

يختلف ما يمكن أن تفعله باختلاف نمط الحزن المحروم، لكن إليك بعض الإرشادات العامة:

  1. تذكّر أنّ الحزن حق من حقوقك.
  2. عبّر عمّا تشعر به بطريقة ذاتية صحيّة تفضّلها كالكتابة والرسم.
  3. تحدّث إلى من تثق به، وتثق بأنه سيتفهم موقفك، وأفصِح عن حزنك.
  4. ابحث عمّن يعانون معاناة مشابهة، وكوّن مجموعة يجمعها شعور مشترك للتعبير عمّا في داخلكم.
  5. استشِر مختصًا نفسيًا عند الحاجة.

 


[1] يكون الأمر كذلك أيضًا في حال عدم معرفة مصير المختفي قسريًا (وإن لم يصلهم خبر موته)؛ فيخشون الإفصاح عن حزنهم وغضبهم، وكلما سمعوا قصة تعذيب للمعتقلين تألموا كأنّ ابنهم هو المعذَّب.

المراجع:

Attig, T. (2004). Disenfranchised Grief Revisited: Discounting Hope and Love. Omega: Journal of Death and Dying, 49(3), 197–215. https://doi.org/10.2190/P4TT-J3BF-KFDR-5JB1
Boss, Pauline. (2018). Families of the missing: Psychosocial effects and therapeutic approaches. International Review of the Red Cross, 99(905), 1-13. https://doi.org/10.1017/S1816383118000140
Selby, S. (2007). Disenfranchised grievers. Reprinted from Australian Family Physician, 36(9), 768-770.https://www.racgp.org.au/afpbackissues/2007/200709/200709selby.pdf
Turner, R. B. & Stauffer, S. D. (2024). Disenfranchised Grief. Routledge

 

Facebook
Twitter
WhatsApp