المقدمة
تحوّلت ساحاتُ التواصل الاجتماعي، بغير قصدٍ، في عصرٍ باتت فيه الشاشاتُ امتدادًا لأرواحنا، إلى مختبرٍ مفتوحٍ لصراعات النفس البشرية الكامنة والتوترات الاجتماعية المكبوتة، لم تعد التعليقات الساخرة، أو السباب المباشر، وملايين إيموجيات “أضحكني” ردود فعل عابرة؛ بل هي علاماتٌ فارقةٌ تُشير إلى تحولاتٍ متناقضة في نسيج سلوك الفرد وديناميات المجتمع برمّته.
يغوص هذا المقال في هذه الظاهرة المتزايدة، مُقدمًا تحليلًا نفسيًا اجتماعيًا للتفاعل السلبي، كاشفًا عن جذوره الخفية وآثاره المتشعبة، ومُقترحًا خارطة طريق نحو حوارٍ رقميٍّ أكثر نضجًا وإنسانيةً ووعيًا.
إنّ هذه السلوكيات ليست انحرافاتٍ فردية عن أدب الحوار فقط، بل هي مؤشّراتٌ لتشوّشٍ في العلاقة مع الذات والآخر، ولانتقالٍ الصراعات النفسية من الداخل إلى العلن، ومن الخاص إلى العام.
من هنا، يحاول هذا المقال قراءة التفاعل الرقمي السلبي والعدائي ليس كحالة أخلاقية تستدعي الإدانة فحسب، بل كظاهرة نفسية اجتماعية تستحق التفكر، والفهم، وإعادة المعايرة من منظور علمي رصين؛ لسنا هنا لندين أو نبرّر، بل لنفهم: لماذا نصبح أكثر قسوة حين نختبئ خلف الشاشة؟ ولماذا نضحك أحيانًا لا لأنّ شيئًا يُضحك، بل لأننا لا نملك لغةً أخرى نواجه بها هشاشتنا؟
- الهوية الرقمية وتأثير التحرر الرقمي: حين تُطلق الشاشات العنان للعدوانية
في صميم العالم الافتراضي، تتشكّل هويةٌ جديدةٌ ومُعقدة: الهوية غير المجسدة (Disembodied Identity) خلف الشاشة الباردة، ينسلخ المستخدم عن جسده، عن صوته، عن عينيه، وعن كل ما يجعل تواصله إنسانيًا ومباشرًا، هذا الانفصال الإدراكي، الذي يمنحه شعورًا كاذبًا بالأمان والسرية، يُضعف حسّه بالمسؤولية الأخلاقية بشكلٍ مُروّع، ويطلق سراح نسخة متحررة من ذاته. إنها ظاهرةٌ يُطلق عليها عالم النفس جون سولير (Suler, 2004) “تأثير التحرر الرقمي” (Online Disinhibition Effect)، ويصفها بقوله: “عندما لا يرى الشخص وجه الآخر، تضعف قدرته على الشعور بالذنب أو التزام الأخلاق، فيصبح أكثر جرأة على التصرف بعدوانية“ (Suler, 2004, p. 321). هذه الحالة تُفاقمها ظاهرة “إزالة الفردية” (Deindividuation)، حيث يقل الشعور بالذات الفردية والمسؤولية الشخصية داخل البيئة الرقمية التي تُخفي هوية الفرد وتُذيبه في حشود لا اسم لها (Zimbardo, 1969).
لكن هذه التحوّلات لا تنشأ من فراغ؛ فالسلوك العدواني لا ينبع من غياب الرقابة المباشرة فقط، بل من بنية متراكمة تُدعى “الهوية الرقمية” (Digital Identity) -هوية يصوغها المستخدم بوعي أو لا وعي ليتماهى مع الجماعة التي ينتمي إليها: سياسية، دينية، فكرية، أو ثقافية؛ إنها ليست انتماء فقط، بل موقع في خريطة الولاءات الرقمية، تتطلب منه أن يُثبت جدارته بها باستمرار، وفي هذا السياق تصف شيري توركل (Turkle, 2011) كيف يسعى الأفراد إلى بناء “ذوات متعددة” عبر الإنترنت، مما يُمكنهم من استكشاف جوانب مختلفة من هويتهم، لكنه قد يُفضي أيضًا إلى تضارب القيم والمسؤوليات بين العالم الافتراضي والواقعي.
وهنا، يبدأ التحول الخطير: الرأي المخالف لم يعد رأيًا فقط، بل تهديدًا وجوديًا للهوية الرقمية المُصطنعة، أي اختلاف يُقرأ كخيانة أو خروج عن الصف، وتصبح السخرية، التنمّر، والسبّ أدوات دفاعية لإثبات الولاء وتحصين الهوية، يغيب “النقاش” بوصفه حوارًا عقلانيًا، ويحل محله صراع وجودي بين هويات متصارعة، في فضاء لا يعرف الرحمة ولا يعترف بالهامش الرمادي، وهكذا لا يعود الانقسام الرقمي مجرد انعكاس لانقسامات الواقع، بل مُضاعفًا لها، محفّزًا أقسى ما في النفس من غرائز الاصطفاف، وقاطعًا خيوط التعاطف والتفاهم، إنها ليست معارك رأي… بل حروب هوية تُخاض تحت رايات الولاء وراجمات الكلمات.
- الاصطفاف الجماعي والاستقطاب: من الحاجة إلى الحصار
من الناحية الاجتماعية، لطالما أشار عالم الاجتماع إميل دوركهايم (Durkheim, 1893) إلى أن الإنسان لا يكتفي بوجوده الفردي، بل يبني هويته ويستمد معناها من الانتماء إلى جماعة، وفي هذا الانتماء تكمن الطمأنينة، والحماية، والشعور بالجدوى، لكن في العالم الرقمي، حيث تتكثف الجماعات وتُبنى على شعارات وسرديّات مختزلة، ينقلب هذا الانتماء النبيل إلى ما يُشبه “العدوى العاطفية” (Emotional Contagion)، حيث تُصبح الاختلافات البسيطة ذرائع مشروعة للهجوم، وتُقرأ الآراء المعارضة كتهديد لهوية الجماعة نفسها (Hatfield et al., 1993).
تُفسّر نظرية الهوية الاجتماعية (Social Identity Theory) التي وضعها هنري تاجفيل (Tajfel, 1979) وجون تيرنر (Tajfel & Turner, 1979)، كيف يسعى الأفراد إلى تعزيز تقديرهم لذاتهم من خلال الانتماء إلى جماعات يُنظر إليها بإيجابية، وفي هذا السياق تُصبح السلوكيات العدوانية تجاه “الجماعات الخارجية” (Out-groups) وسيلة لتعزيز تماسك “الجماعة الداخلية” (In-group) وتأكيد تفوقها المزعوم.
هذه الحساسية المفرطة تجاه المختلف تخلق ما يُعرف في علم النفس الاجتماعي بـ”التفكير الثنائي” (Binary Thinking) -تقسيم العالم إلى “نحن” مقابل “هم”، دون مساحة للوسطية أو الحياد (Baron & Byrne, 2000) وهنا لا يكون السباب والانفعال تفريغ غضب، بل لغة طقسية، تُستخدم لتأكيد الولاء وإعادة إنتاج التفوق الأخلاقي أو الفكري للجماعة، حتى لو كانت على حساب الحقيقة أو العدالة.
يفقد الحوار الهادف معناه تحت هذا الضغط، ويُختزل التواصل إلى لعبة اصطفاف، كل صوت مختلف يُعامل كخطر وجودي، لا كشريك في النقاش، وهكذا بدل أن يكون الانتماء وسيلة لتعزيز الروابط الإنسانية، يتحول إلى حصنٍ نفسي تُطلق منه السهام، ويترسّخ شعور زائف بالقوة الجماعية يخفي تحته هشاشة فردية.
- الإسقاط النفسي: ظلال الذات المُهاجِمة
في متاهة النفس البشرية يسكن ما يسميه كارل يونغ (Jung, 1959) بـ”الظل ” (The Shadow) – ذلك الجزء المكبوت من الذات، المليء بالصفات والدوافع التي ننكر وجودها فينا، لا لأنها غير موجودة، بل لأنها تتعارض مع الصورة التي نريد أن نُظهرها للعالم، أو لأننا ببساطة نخاف مواجهتها، يمكن أن يتضمن الظل مشاعر سلبية مثل الغضب، والحسد، أو انعدام الأمان، بالإضافة إلى صفات إيجابية تم قمعها.
حين لا يجد هذا الظل متنفسًا داخليًا، يبدأ في الظهور خارجيًا، فيُسقَط على الآخرين: على المختلف، على الغريب، على من يُوقظ فينا شيئًا نفضّل نسيانه، يقول يونغ بوضوح يكشف المراوغة النفسية: “إن ما لا نستطيع تقبّله في أنفسنا، غالبًا ما نراه في الآخرين ونهاجمه“ (Jung, 1959, paraphrased). هذا الإسقاط يُعد آلية دفاعية تُخفف من التوتر النفسي الداخلي، حيث يُمكن الفرد من معالجة الصراعات الداخلية عن طريق “إلقاء اللوم” أو “استهداف” سمات معينة في الآخرين، بدلًا من مواجهتها في الذات.
وهكذا حين يهاجم أحدهم فكرة أو موقفًا بعنفٍ لا يتناسب مع الموقف ذاته، فهو -في الأغلب- لا يُدافع عن “الحقيقة” بقدر ما يُدافع عن صورة مثالية عن ذاته، يرغب في ترسيخها أو حمايتها، وفي الواقع الشتائم والانفعالات الحادة لا تكون دائمًا ردود فعل موضوعية على خطأ الآخر، بل كثيرًا ما تكون محاولات لا واعية لتعزيز شعور هشّ بالتماسك الداخلي، وهروبًا غير واعٍ من مواجهة تلك الظلال القابعة فينا، وفي هذا السياق يُصبح العالم الرقمي مرآة مشوهة: يُسقط فيها كلٌّ منا أسوأ ما في داخله، ثم يُحاربه خارج نفسه، على هيئة تعليقٍ لاذع أو سخرية جارحة، بينما نظل نظنّ أننا نُحارب “الخطأ” أو “الجهل”، لا أنفسنا المنكفئة في الآخر.
- التنافس الهش: المقارنة الاجتماعية وعقدة النقص
في فضاءٍ رقميٍ يعجّ بالآراء والأهواء، والإنجازات والاستعراضات، والصور البراقة، تُصبح وسائل التواصل الاجتماعي مسرحًا دائمًا للمقارنة، وهنا تبرز “نظرية المقارنة الاجتماعية” (Social Comparison Theory) التي طوّرها ليون فيستنغر (Festinger, 1954)، لتفسّر كيف يقيس الأفراد أنفسهم من خلال مقارنة آرائهم وقيمهم وإنجازاتهم بما يراه الآخرون، هذه المقارنات يمكن أن تكون صعودية (Upward Comparison) نحو من يُنظر إليهم كأفضل، أو هبوطية (Downward Comparison) نحو من يُنظر إليهم كأقل، ولكل منها تأثيرها على تقدير الذات (Wills, 1981).
لكن ما يبدو ظاهريًا مجرّد تفاعل فكري، قد يُخفي صراعًا داخليًا مريرًا، فعندما يُستثار شعور دفين بعدم الأمان أو عقدة النقص، لا يجد بعض الأفراد سوى وسيلة دفاعية سريعة: العدوان، تُشير الأبحاث في مجال علم النفس الاجتماعي إلى أن السلوكيات العدوانية قد تكون آلية لتعزيز تقدير الذات المتدني، حيث يمكن أن تُمنح الإهانة السريعة شعورًا مؤقتًا بالتفوق أو القوة، وبالتالي “إعادة توازن” الثقة بالنفس المفقودة (Kowalski et al., 2014).
وفي هذا السياق لا تأتي التعليقات الساخرة أو اللاذعة من فائض ثقة أو حجة دامغة، بل من محاولة مُضطربة لاستعادة توازن داخلي مختلّ، فكلما بدا الآخر أكثر تفوقًا -فكريًا أو ثقافيًا أو لغويًا- ازدادت الحاجة لإضعافه، لا لأن فكرته خاطئة، بل لأن وجوده يُهدد “صورة الذات” (Self-Image) لدى المُعلّق، وهكذا يتحوّل النقاش إلى صراع من أجل ترميم الذات، لا من أجل الحقيقة، يبدو العالم الرقمي هنا ساحةً لاختبارات مستمرة للجدارة، والتفوق، والاعتراف… حيث لا ينجو إلا من يتقن فنّ إخفاء هشاشته خلف درع من السخرية أو الهجوم المباغت.
- غرف الصدى والتنافر المعرفي: حصون العقل الرقمي
في خلفية هذا السلوك العدواني المتكرر، تقف خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي كقوة خفية تُوجّه السياق وتُعيد تشكيل ما نراه ونصدّقه، عبر ما يُعرف بـ”غرف الصدى” (Echo Chambers) و”فقاعات التصفية” (Filter Bubbles) (Pariser, 2011)، تُضخّم هذه الخوارزميات كل رأيٍ يُشبهنا، وتُخفي بهدوء كل رأيٍ يُخالفنا، فنتحوّل من مستخدمين إلى أسرى لجزر فكرية مغلقة.
كما يُشير يان بيرغر (Berger, 2018) وكاس صنستين (Sunstein, 2017): “الخوارزميات لا تعزز الحوار، بل تخلق جزرًا فكرية مغلقة تُعزز الانقسام المجتمعي وتُقلل من التعرض لوجهات النظر المغايرة“ (Berger, 2018, p. 45; Sunstein, 2017). في هذه البيئة، لا يكون المختلف مجرد آخر، بل تهديدًا لنظامٍ معرفي مُكتمل ومُريح، وعندما يظهر هذا التهديد، يعاني الفرد من التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance) (Festinger, 1957) وهي حالة نفسية من التوتر وعدم الاتساق بين ما يؤمن به وما يُواجهه من أفكار مُخالفة. ولتفريغ هذا القلق الداخلي، لا يلجأ البعض إلى التفكير أو التفهّم، بل إلى السباب والهجوم، كآلية سريعة وفعّالة لإسكات الاضطراب وإعادة تثبيت قناعاته داخل هذه الغرف الصدية المعزولة، مما يُرسّخ الانقسام ويُعطّل أي فرصة للتفاهم، هذا السلوك يتفاقم بفعل “التحيز التأكيدي” (Confirmation Bias)، حيث يميل الأفراد للبحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم وتجنب ما يناقضها (Nickerson, 1998). تُفاقم الخوارزميات هذه الدورة بتفضيل المحتوى المثير للانفعالات، مما يعزز العدوانية والاستقطاب (Tufekci, 2018).
- الضحك على الألم: الفكاهة كسلاح استفزازي
من المثير للانتباه أن كثيرًا من التعليقات السلبية والعدائية على منصات التواصل الاجتماعي تُرفق بـ”إيموجيات أضحكني” أو تعبيرات ضحك مشابهة، إلا أن هذا الضحك غالبًا ما يكون بعيدًا كل البعد عن الفرح الحقيقي، بل هو ما يعرف في علم النفس بـ”الضحك الدفاعي” (Defensive Humor).
يصف سيغموند فرويد (Freud, 1905) هذا النوع من الفكاهة بدقة، حيث تُستخدم الفكاهة كآلية دفاعية لتفريغ التوترات والمشاعر السلبية بشكل مقبول اجتماعيًا (Freud, 1905). لكن في السياق الرقمي، يتحول هذا الضحك إلى سلاحٍ باردٍ يستخدمه البعض كغطاء للتنمر والإيذاء، إذ يُخفي وراءه الكراهية والعدوانية، ويخفف من شعور المستخدم بالذنب تجاه إلحاق الضرر بالآخرين. هذا الضحك المختبئ خلف الشاشة يمكّن الأفراد من إطلاق سهام الإهانة والاستفزاز دون الشعور بالتبعات الأخلاقية أو الاجتماعية، مما يجعل تبرير العدوان عبر الفكاهة أكثر خبثًا وأشد تأثيرًا في إذكاء الألم النفسي لدى الضحايا. يمكن ربط هذا السلوك أيضًا بمفهوم “الشماتة” (Schadenfreude)، حيث يستمد الفرد المتعة من مصائب الآخرين أو إهانتهم (Smith et al., 2009). تؤدي هذه السلوكيات إلى تفاقم التنمر الإلكتروني، الذي يرتبط بزيادة القلق والاكتئاب والضيق النفسي لدى الضحايا (Kowalski et al., 2014).
- نحو ثقافة رقمية مرنة: إعادة بناء الجسور الرقمية
يتطلب التصدي للعدوانية الرقمية نهجًا متعدد الأوجه يعزز المرونة النفسية والمسؤولية الاجتماعية، ويُسهم في بناء فضاء رقمي أكثر صحة وإنسانية.
أولًا: التثقيف حول الاختلاف والتفكير النقدي (Education for Diversity and Critical Thinking) علينا تعليم الأجيال الجديدة، منذ نعومة أظفارها، أن التنوع الفكري ليس ضعفًا ولا خطأً، وأن الحوار الحقيقي يُبنى على الفهم والتسامح لا على الهجوم والرفض، يجب تطوير برامج تعليمية تُركز على مهارات التفكير النقدي، تقييم المعلومات، والقدرة على التعامل مع وجهات النظر المتضاربة (Livingstone & Haddon, 2009). هذا يغرس في نفوسهم بذور التسامح والمرونة الفكرية، ويُهيئهم للتعامل بوعي مع الاختلافات.
ثانيًا: الوعي الذاتي والتنظيم الانفعالي (Self-Awareness and Emotional Regulation) يمثل الوعي الذاتي ركيزة أساسية في ثقافة التفاعل الرقمي. يجب تشجيع المستخدمين على التفكير النقدي قبل التعليق أو الرد، وربط كل تفاعل رقمي بسؤال بسيط وصادق: “هل هذا يُثري الحوار أم يُدمّره؟“ هذا السؤال يعمل كمنبه للضمير الرقمي، ويحفز على الاختيار الواعي في كل لحظة تواصل، ويجب تعزيز مهارات التنظيم الانفعالي، التي تُمكن الأفراد من إدارة مشاعرهم السلبية بطرق بناءة بدلًا من تفريغها بشكل عدواني (Goleman, 1995; Kabat-Zinn, 1990).
ثالثًا: إصلاح الخوارزميات والمسؤولية المنصّية (Algorithmic Reform and Platform Accountability) من الضروري الضغط على منصات التواصل الاجتماعي لتقليل التحيز في توزيع المحتوى، والانتقال إلى نمط يعزز المحتوى الحواري البناء، ويشجع على تبادل وجهات النظر المتعددة بدلاً من الانغلاق داخل ما يُعرف بغرف الصدى الرقمية، يجب أن تُصمم الخوارزميات لتعزيز التعرض للمعلومات المتنوعة وتقليل الاستقطاب (Zittrain, 2019). كما يجب على المنصات تحمل مسؤولية أكبر في مراقبة المحتوى العدواني وتطبيق سياسات واضحة وصارمة لمكافحة التنمر وخطاب الكراهية.
رابعًا: برامج التوعية الرقمية وتعزيز التعاطف (Digital Literacy Programs and Empathy Promotion) تنظيم حملات توعية مكثفة لنشر ثقافة الحوار البناء والمسؤولية الرقمية، مستلهمة من تجارب عالمية ناجحة، هذه البرامج يجب أن تركز على فهم الآثار النفسية للسلوكيات الرقمية، وتنمية مهارات التعاطف تجاه الآخرين عبر الشاشات، وتعزيز القدرة على التمييز بين المعلومات الموثوقة والمضللة، يمكن استخدام الأدوات الرقمية نفسها لتعزيز التعاطف من خلال القصص التفاعلية أو التجارب الافتراضية التي تضع المستخدم في مكان الآخر.
خاتمة: مواجهة مخاوفنا… نحو فضاء رقمي إنساني
الكراهية لا تُثمر إلا كراهية: السباب والمسخرة التي تعمّ فضاءاتنا الرقمية ليست سوى أعراض لجائحة صامتة، تفتك بصحة المجتمعات، وتتمثل في فقدان القدرة على احتواء الاختلاف، وضعف الوعي الذاتي، وضمور الثقافة الحوارية، وإذا ما تأخرنا في تشخيص هذه الأعراض، وتأجيل معالجتها بجذرية، فسنظل ندور في حلقة مفرغة من العنف اللفظي، نحقّق تقدمًا تقنيًا زائفًا، بينما يتآكل جوهر فهمنا الإنساني لبعضنا البعض.
وكما يشير ألبير كامو في أعماله، فإنّ فهم الذات والآخر يتطلب مواجهة صادقة لما في دواخلنا من مخاوف وأحكام مسبقة (Camus, 1951). فـ “إذا كنت لا تستطيع رؤية نفسك في الآخر، فأنت لن ترى سوى انعكاس لخوفك“ هذه العبارة تُعدّ دعوة للتبصر في العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتُسلط الضوء على أن العدوانية الموجهة نحو الآخرين غالبًا ما تكون هروبًا من مواجهة الضعف أو النقص في الذات.
هذه لحظة الحساب، والاختبار الحقيقي لقدرتنا على مواجهة مخاوفنا الداخلية التي نلقي بظلالها على الآخر عبر شاشاتنا، هل نحن مستعدون لأن نُسائل ذواتنا، ونُعيد برمجة وعينا الإنساني، لا مجرد الخوارزميات الرقمية؟ أم سنظل نغذي ساحة الإنترنت بحروب صغيرة، لا يكسب فيها إلا الكراهية، وتخسر فيها الإنسانية جمعاء؟ إنها دعوة ملحّة، تدعونا لأن ننهض بشجاعة، ونحوّل الفضاء الرقمي من ساحة صراع قاحلة إلى واحة تواصل وإمكانية تفاهم، حيث يكون الاختلاف مصدر قوة، لا تهديدًا، وحيث يُحتفى بالإنسان في كل تنوعه، لا يُقتل بكلماتٍ باردة خلف شاشة. فهل نملك هذه الشجاعة؟
المراجع
Baron, R. A., & Byrne, D. (2000). Social psychology (9th ed.). Allyn & Bacon.
Berger, I. (2018). Media and society: A critical perspective. Rowman & Littlefield.
Camus, A. (1951). L’Homme révolté. Gallimard. (Translated as The Rebel).
Durkheim, É. (1984). The Division of Labour in Society (W. D. Halls, Trans.). Free Press. (Original work published 1893).
Festinger, L. (1954). A theory of social comparison processes. Human Relations, 7(2), 117–140. https://doi.org/10.1177/001872675400700202
Festinger, L. (1957). A Theory of Cognitive Dissonance. Stanford University Press.
Freud, S. (1905). Der Witz und seine Beziehung zum Unbewussten. Hugo Heller. (Translated as Jokes and Their Relation to the Unconscious).
Goleman, D. (1995). Emotional Intelligence. Bantam Books.
Hatfield, E., Cacioppo, J. T., & Rapson, R. L. (1993). Emotional contagion. Current Directions in Psychological Science, 2(3), 96-99.
Jung, C. G. (1959). The Archetypes and the Collective Unconscious (R. F. C. Hull, Trans.). Pantheon Books. (Vol. 9, Part 1 of The Collected Works of C. G. Jung).
Kabat-Zinn, J. (1990). Full catastrophe living: Using the wisdom of your body and mind to face stress, pain, and illness. Delacorte Press.
Kowalski, R. M., Giumetti, G. W., Schroeder, A. N., & Lattanner, M. R. (2014). Bullying in the digital age: A review of the literature. Psychological Bulletin, 140(4), 1073–1137. https://doi.org/10.1037/a0035618
Livingstone, S., & Haddon, L. (2009). Kids online: Opportunities and risks for children. Policy Press.
Nickerson, R. S. (1998). Confirmation bias: A ubiquitous phenomenon in many guises. Review of General Psychology, 2(2), 175–220. https://doi.org/10.1037/1089-2680.2.2.175
Pariser, E. (2011). The Filter Bubble: What the Internet Is Hiding from You. Penguin Press.
Smith, R. H., Parrott, W. G., Diener, E., & Scherer, K. R. (Eds.). (2009). The Psychology of Schadenfreude. Oxford University Press.
Suler, J. R. (2004). The online disinhibition effect. CyberPsychology & Behavior, 7(3), 321–326. https://doi.org/10.1089/1094931041291295
Sunstein, C. R. (2017). #Republic: Divided democracy in the age of social media. Princeton University Press.
Tajfel, H. (1979). Individuals and groups in social psychology. British Journal of Social and Clinical Psychology, 18(2), 183–190. https://doi.org/10.1111/j.2044-8260.1979.tb00324.x
Tajfel, H., & Turner, J. C. (1979). An integrative theory of intergroup conflict. Journal of Social Psychology, 33(3), 47-63.
Tufekci, Z. (2018). Twitter and tear gas: The power and fragility of networked protest. Yale University Press.
Turkle, S. (2011). Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other. Basic Books.
Wills, T. A. (1981). Downward comparison principle in social psychology. Psychological Bulletin, 90(2), 245–271.
Zimbardo, P. G. (1969). The human dilemma of deindividuation. In W. J. Arnold & D. Levine (Eds.), Nebraska Symposium on Motivation (Vol. 17, pp. 313–332). University of Nebraska Press.
Zittrain, J. (2019). The future of the internet—and how to stop it. Yale University Press.