العجز المتعلم وعلاقته بالاضطرابات النفسية

يُعد العجز المتعلم (Learned Helplessness) من المفاهيم النفسية المعاصرة التي شغلت الباحثين والمهتمين بعلم النفس، نظراً لتأثيراته العميقة على الصحة النفسية والسلوك الإنساني، يتجسد هذا المفهوم في الحالة التي يصل فيها الفرد إلى قناعة داخلية بأنه لا يمتلك القدرة على التأثير في مجريات حياته، حتى في الظروف التي يكون فيها التغيير ممكناً، وتنشأ هذه الحالة عادة نتيجة للتعرض المتكرر لمواقف فشل أو ألم أو تهديد لا يمكن التحكم بها، وقد أسهمت أبحاث سليجمان وزملائه في بلورة هذا المفهوم وتفسيره، مما فتح آفاقاً لفهم جذور العديد من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والقلق واضطرابات التكيف.

نشأة العجز المتعلم:

ظهر مفهوم العجز المتعلم بشكل تجريبي من خلال تجارب سليجمان على الحيوانات، إذ لاحظ أن الكائنات التي تتعرض لصدمات كهربائية لا يمكنها الهروب منها تتوقف لاحقاً عن محاولة الهرب، حتى عندما تتاح لها الفرصة، وقد اعتُبر هذا السلوك دليلاً على أن العجز ليس فطرياً، بل مكتسب بالتعلم من خلال التجربة المؤلمة المتكررة(الفرحاتي،٢٠٠٩، ص14).

تعريف العجز المتعلم:

عرف سليجمان (1975) العجز المتعلم بأنه حالة نفسية يتولد فيها اعتقاد لدى الفرد بأن جهوده غير مجدية ولا تأثير لها على النتائج، مما يؤدي إلى انسحابه من المحاولة حتى عندما تتغير الظروف وتصبح أكثر إيجابية(قطامي، ٢٠١٢، ص257).

وعرف حجازي (2005) العجز المتعلم بأنه هو شكل من أشكال الهدر النفسي الذي ينشأ بسبب تكرار الفشل، ويفقد معه الفرد القدرة على المبادرة والتخطيط وضبط الانفعالات (الناهي،٢٠١٧).

مراحل تشكل العجز المتعلم:

يمر العجز المتعلم بثلاث مراحل رئيسة:

  1. تعرض الفرد لظروف خارجية ضاغطة يصعب التحكم فيها.
  2. تكوُّن توقعات داخلية بعدم القدرة على التأثير أو التغيير.
  3. ظهور سلوكيات سلبية تؤكد الإحساس بالعجز وتعززه في مواقف أخرى. (الفرحاتي، ٢٠٠٩، ص ٢٧)

مظاهر العجز المتعلم حسب سليجمان:

  1. العجز الدافعي: يظهر من خلال انخفاض الرغبة في المحاولة، وتجنب خوض التجارب الجديدة نتيجة تكرار الفشل.
  2. العجز المعرفي: يتجلى في ضعف قدرة الفرد على التعلم من الخبرة، أو اعتقاده أن أفعاله لا تؤثر في نتائج الحياة.
  3. العجز الانفعالي: يتمثل في مشاعر القلق والغضب التي تتحول لاحقاً إلى اكتئاب نتيجة الإحساس بالعجز المستمر.
  4. العجز السلوكي: يتمثل في سلوكيات الانسحاب، الكسل، الاعتمادية، والعزوف عن المبادرة نتيجة فقدان الثقة بتأثير الجهد المبذول. (الناهي، ٢٠١٧)

يمكن التعرف على العجز المتعلم من خلال ثلاثة مؤشرات رئيسة:

  1. السلبية غير المناسبة: حين يتوقف الفرد عن التفاعل رغم قدرته على الفعل.
  2. المواقف غير القابلة للسيطرة: وهي التي تشعر الفرد بعدم جدوى المحاولة مهما بذل من جهد.
  3. البنى المعرفية للعجز: وهي مجموعة أفكار وتوقعات تشكلت لدى الفرد، تسهم في تعميم الإحساس بالعجز حتى في مواقف جديدة. (الفرحاتي، ٢٠٠٩، ص ١٣)

مظاهر العجز المتعلم من أبرز ملامح هذه الظاهرة:

  1. توقف المحاولة بعد الفشل المتكرر.
  2. الإذعان للضغوط أو المواقف السلبية.
  3. ضعف التكيف، وانخفاض التقدير الذاتي.
  4. تكرار السلوكيات السلبية حتى عند توافر الحلول.
  5. غياب العلاقة بين الجهد والنتيجة في إدراك الفرد.  (قطامي،٢٠١٢، ص267).

نتائج العجز المتعلم:

1. في السياق التعليمي:

  • عزوف الطلبة عن التعلم.
  • انخفاض التحصيل الدراسي.
  • الانسحاب من المواقف التعليمية.
  • فقدان الثقة بالذات، واللامبالاة تجاه الإنجاز.
  • تطوير فكرة سلبية عن الذات.
  • كراهية التعلم والتعليم والمدرسة.
  • ترك المدرسة. (قطامي،٢٠١٢، ص268)

2. في الحياة العامة:

  • الانعزال الاجتماعي.
  • انخفاض الارتباط بالجماعة والرفقاء.
  • تبلد المشاعر.
  • القلق الدائم.
  • مشاعر الرفض والإهمال.
  • سوء التكيف والعدوانية.  (قطامي،٢٠١٢، ص268).

تقوم نظرية العجز المتعلم على جملة من الافتراضات:

  1. العجز سلوك مكتسب نتيجة الإدراك المتكرر لعدم القدرة على التحكم.
  2. تتدخل التفسيرات المعرفية للفشل في تشكيل الشعور بالعجز.
  3. كلما كان العزو السببي داخلي وثابت، زادت احتمالية العجز.
  4. يمكن إعادة تعليم الفرد مقاومة العجز من خلال تعديل الأفكار والمعتقدات السلبية. (Abramson et al, 1978, p.28)

 خصائص الأفراد الذين يعانون من العجز المتعلم:

  1. ضعف في تحقيق الأهداف بسبب قلة الكفاءة أو فقدان الثقة بالقدرة الذاتية.
  2. غياب التغذية الراجعة وعدم الاستفادة منها في تعديل السلوك.
  3. قصور في دمج الطموح مع القدرات الواقعية، وتجنب التحديات المعتدلة.
  4. الاعتماد على الحظ بدلاً من المهارة لتفسير النجاح.
  5. تضخيم السلبيات، وضعف المثابرة، والانخفاض في التوقعات الذاتية للنجاح.
  6. استخدام استراتيجيات سلبية لحل المشكلات، مع عزوف عن المبادرة أو المخاطرة.
  7. الميل إلى الاستسلام عند أول فشل، وتبني تصورات سلبية عن الذات والمحيط.
  8. قناعة داخلية بعدم جدوى المحاولة أو التغيير، حتى إن كانت الظروف قابلة للتحكم. (الفرحاتي ،٢٠٠٩، ص28-29).

 العجز المتعلم والمعتقدات اللاعقلانية:

يرى  (1987 Ellis & Dryden) أن بعض أنماط التفكير اللاعقلاني تساهم في تعلم العجز، ومنها:

1. وجوب نيل رضا الجميع.

2. ضرورة أن تسير الحياة وفق التوقعات دائماً.

3. عدم احتمال الظروف السلبية واعتبارها كارثية(الفرحاتي ،٢٠٠٩. ص145).

 العلاقة بين العجز المتعلم والاضطرابات النفسية:

تشير الأبحاث إلى ارتباط وثيق بين العجز المتعلم وعدة اضطرابات نفسية، منها:

  1. الاكتئاب: يتقاطع العجز المتعلم مع الاكتئاب من حيث انخفاض تقدير الذات، الشعور باليأس، والانسحاب من النشاطات، فالفرد المكتئب يرى أن لا جدوى من المحاولة، ويعتقد أن فشله حتمي ولا يمكن تغييره.
  2. القلق العام: ينشأ القلق كاستجابة أولية لمحاولات فقدان السيطرة، ثم يتطور إلى حالة من الترقب السلبي المزمن، مما يعزز الاعتقاد بعدم القدرة على المواجهة.
  3. اضطرابات التكيف: يتعرض الأفراد الذين يعانون من عجز متعلم لصعوبة في التكيف مع الضغوط الحياتية اليومية، ويفتقرون إلى استراتيجيات المواجهة الفعالة، مما يجعلهم أكثر عرضة للضغوط النفسية والانفعالية.

(Abramson et al, 1978, p.88)

 أهمية دراسة العجز المتعلم:

إن دراسة العجز المتعلم لا تقتصر على الفهم النظري، بل لها انعكاسات عملية هامة في مجال الوقاية والتدخل المبكر، منها:

  1. تعزيز الوعي الذاتي والقدرة على التغيير.
  2. تطوير برامج علاجية معرفية وسلوكية تستهدف تعديل المعتقدات السلبية.
  3. تمكين الأفراد من تبني عزو سببي إيجابي وتحسين التفاعل مع المواقف الصعبة.
  4. دعم الفئات المعرضة للخطر (مثل الطلاب والنازحين وضحايا الصدمات) لتفادي الوقوع في دائرة العجز المزمن.   (قطامي،٢٠١٢. ص280).

يبدأ العجز المتعلم من داخل الفرد قبل أن تفرضه عليه الظروف، فعندما يُكرر الإنسان على مسامعه عبارات الإخفاق، ويتحدث إلى ذاته بمفردات اليأس، فإنه يُعلم نفسه كيف يكون عاجزاً، وإذا استسلم لهذه المشاعر وأقنع نفسه بصحتها، تصبح هذه الحالة جزءاً من شخصيته، حين يعتاد الفرد قبول الفشل دون مقاومة، فإنه يُرسخ سلوك العجز، بل لا يمكن لمن تعلم الفشل أن يُعلم غيره النجاح، فالفشل إن أصبح أسلوب حياة، يصبح النجاح مستحيلاً.(قطامي. ٢٠١٢. ص٣٠٠)


 يتضح من خلال ما سبق أن العجز المتعلم ليس مجرد حالة انفعالية عابرة، بل يمثل منظومة معرفية ودافعية وسلوكية معقدة تنشأ عن تكرار الفشل والإخفاق، وتتعمق بفعل المعتقدات اللاعقلانية والعزو السببي السلبي، وقد بينت الأدبيات النفسية العلاقة الوثيقة بين هذه الحالة وبين ظهور عدد من الاضطرابات النفسية، وعلى رأسها الاكتئاب والقلق واضطرابات التكيف، إن فهم آليات العجز المتعلم يُعد خطوة جوهرية في بناء تدخلات نفسية فعالة تستهدف الوقاية، وتعديل أنماط التفكير غير السوي، وتعزيز الشعور بالتحكم والقدرة لدى الأفراد، ولعل ما يميز هذا المفهوم أنه متعلم، ومن ثم قابل للتعديل، مما يمنح العاملين في الصحة النفسية فرصة حقيقية لإعادة تمكين الأفراد ودعمهم في تجاوز آثار الإخفاقات الماضية نحو التكيف الإيجابي.

المراجع

الفرحاتي، محمود السيد (2009). العجز المتعلم سياقاته وقضاياه التربوية والاجتماعية. مكتبة الأنجلو المصرية.

قطامي، يوسف محمود (2012). نظرية التنافر والعجز والتغيير المعرفي. دار المسيرة للنشر والتوزيع.

الناهي، بتول غالب، وعلي، آية عبد الأمير. (2017). العجز المتعلم لدى طلبة الجامعة. مجلة أبحاث البصرة للعلوم الإنسانية، 42 (5)، 71-94.

Abramson, L. Y., Seligman, M. E., & Teasdale, J. D. (1978). Learned helplessness in humans: Critique and reformulation. Journal of Abnormal Psychology87(1), 49–74. https://doi.org/10.1037/0021-843x.87.1.49

Facebook
Twitter
WhatsApp