الانهيار النفسي المؤجل والصلابة النفسية في زمن الحرب: قراءة في ديناميات التأقلم والصمود الإنساني لدى الفلسطينيين

تشكل الحروب واحدة من أخطر الأزمات التي يمكن أن يمر بها الإنسان، لما تتركه من آثار نفسية واجتماعية عميقة تمتد آثارها لسنوات طويلة بعد توقف العمليات العسكرية، وعلى وقع طبولها المرعبة يبرز مفهومان نفسيان مهمان: الانهيار النفسي المؤجل والصلابة النفسية.

ففي الوقت الذي ينجح فيه بعض الأفراد في تجاوز الصدمات المباشرة للحرب دون أعراض فورية، يظهر لديهم لاحقا تفكك نفسي مفاجئ يعرف بالانهيار النفسي المؤجل، وعلى النقيض يتمكن آخرون من التكيف مع تلك الضغوط عبر امتلاكهم لما يعرف بالصلابة النفسية، وهي مجموعة من الخصائص الذاتية والاجتماعية التي تمكن الفرد من الصمود أمام الشدائد (Kobasa, 1979).

وتُعَدّ فلسطين نموذجًا تطبيقيًا غنيًا لفهم الظاهرتين نظرًا لاستمرار الاحتلال والحروب المتكررة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ عقود، وما نتج عن ذلك من ضغوط نفسية واجتماعية مزمنة (عبد الله، 2017).

 تناقش هذه المقالة العلاقة بين الانهيار النفسي المؤجل والصلابة النفسية في سياق الحرب الممتدة، مع تقديم قراءة تحليلية لديناميات التأقلم والصمود الإنساني لدى الفلسطينيين.

الانهيار النفسي المؤجل:

يشير الانهيار النفسي المؤجل (Delayed Psychological Collapse) إلى ظهور الأعراض النفسية بعد فترة طويلة من التعرض لحدث صادم أو سلسلة من الصدمات، ويدرج هذا النوع من التفاعل النفسي ضمن اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) من النوع المتأخر (American Psychiatric Association, 2013). ويتميز بعدم ظهور استجابة نفسية حادة مباشرة بعد الحدث الصادم، بل يبدو الفرد متماسكًا لفترة قد تمتد من شهور إلى سنوات قبل أن يحدث الانهيار النفسي المفاجئ.

أعراض الانهيار النفسي المؤجل:

  • نوبات بكاء مفاجئة وفقدان السيطرة الانفعالية.
  • القلق العام ونوبات الهلع.
  • اضطرابات النوم وكوابيس متكررة.
  • أعراض جسدية نفسية المنشأ مثل الصداع المزمن وآلام العضلات.
  • الشعور بالذنب أو فقدان المعنى (Brewin, 2014) .

وفسّر باحثون هذه الظاهرة بأنها نتيجة آليات دفاعية مؤقتة تهدف لحماية الفرد من الانهيار أثناء الأزمة، لكنها تفشل لاحقًا عند تراكم الضغوط (Freud, 1926). كما تعزو دراسات حديثة ذلك إلى ما يسمى حمولة الصدمة النفسية  والتي تتجاوز قدرة الفرد على الاستيعاب النفسي مع مرور الوقت (Herman, 1992) .

الصلابة النفسية:

ظهرت الصلابة النفسية كمفهوم في علم النفس الإيجابي لوصف الأفراد الذين يظهرون قدرة عالية على مواجهة الشدائد دون الانهيار (Maddi, 2002). وعرفتها كوباسا أنها “مجموعة من السمات الشخصية التي تحمي الفرد من الآثار السلبية للضغوط” (Kobasa, 1979) .

مكونات الصلابة النفسية:

وفق النموذج الثلاثي لكوباسا (Kobasa, 1979):

  1. الالتزام :(Commitment) الشعور بأن للحياة معنى، وأن الفرد جزء فاعل فيها.
  2. التحكم :(Control) الإيمان بقدرة الفرد على التأثير في الأحداث.
  3. التحدي :(Challenge) النظر للشدائد كفرص للنمو وليست تهديدًا.

وتُعَدّ الصلابة النفسية عاملًا وقائيًا ضد الانهيار النفسي، وتسهم في تعزيز مرونة الجهاز النفسي وديناميات التكيف. (Maddi, 2002)

 العلاقة بين الانهيار النفسي المؤجل والصلابة النفسية

تبدو العلاقة بين المفهومين علاقة جدلية فالأفراد ذوو الصلابة النفسية المنخفضة أكثر عرضة للانهيار النفسي فور وقوع الصدمة، بينما قد يظهر الانهيار المؤجل عند ذوي الصلابة الجزئية الذين يصمدون لفترة قبل التفكك النفسي بسبب الإرهاق التراكمي (Bonanno, 2004). في حين يندر الانهيار النفسي لدى أصحاب الصلابة النفسية العالية الذين يمتلكون دعما اجتماعيا قويا ومهارات تفكير صحية.

وقد كشفت دراسات عربية أن ثقافة الإنكار المؤقت للصدمات وتأجيل التعبير عن الألم النفسي، كما في البيئات العربية المحافظة، قد تسهم في زيادة حالات الانهيار النفسي المؤجل. (الحداد، 2012)

 ديناميات التأقلم والصمود (نموذج الحرب):

في زمن الحرب، تتنوع استراتيجيات التكيف لدى الأفراد:

وتشير دراسات الصمود المجتمعي إلى أن الانتماء الجماعي يعد أهم العوامل التي تخفف من آثار الصدمة وتؤخر الانهيار النفسي (Hobfoll et al., 2011) .

فلسطين نموذج للصمود تحت الضغط:

يمثل المجتمع الفلسطيني نموذجًا فريدًا لدراسة التأثير النفسي للحرب المزمنة؛ فقد أظهرت أبحاث فلسطينية زيادة بنسبة 37%  في أعراض الصدمة النفسية بين الأطفال و 48%بين النساء في مناطق النزاع (وزارة الصحة الفلسطينية، 2021). ومع ذلك لوحظت مستويات عالية من الصمود النفسي نتيجة منظومة ثقافية–اجتماعية قوية قائمة على الدين، قيم الشهادة، التماسك الأسري، والترابط الاجتماعي. (السقا، 2019(

ولعل أهم مظاهر الصلابة النفسية في فلسطين:

  • الروح المعنوية المرتبطة بالهوية الوطنية.
  • الدعم الاجتماعي داخل العائلات الممتدة.
  • الإيمان بالقضاء والقدر كآلية لتقبل الخسائر.
  • استمرار الحياة رغم الحرب; التعليم تحت القصف، والعمل تحت الحصار.

ورغم المظاهر الجلية للصلابة النفسية إلا أن مظاهر الانهيار النفسي المؤجل حاضرة ومنها:

  • انتشار اضطراب الكرب التالي للصدمة في سنوات ما بعد الحرب.
  • ارتفاع معدلات الانتحار في غزة بعد الحروب الطويلة بسبب الإرهاق النفسي المتراكم (UNRWA, 2020) .
  • موجات من الانهيارات الانفعالية المتأخرة بين الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن (Qouta et al., 2008) .

المناقشة والخاتمة:

تكشف حالة الفلسطينيين أن الصلابة النفسية لا تلغي الانهيار النفسي المؤجل تمامًا، بل تؤجله أحيانًا؛ فالصمود اليومي والتمسك بالأمل تحققان توازنًا نفسيًا، لكنها لا تضمن السلامة النفسية على المدى البعيد في ظل استمرار الصدمات.

تظهر التجربة الجمعية للفلسطينيين أن الصلابة النفسية ليست حالة جامدة أو قدرة خارقة على تجاوز الألم، بل هي آلية دفاعية تساعد على الاستمرار في مواجهة القهر اليومي، لكنها لا تمنع الانهيار النفسي المؤجل أو الانفجار العاطفي المتراكم؛ فالقدرة على التحمل والصمود، رغم كونها ظاهرة إنسانية مدهشة وواقعية معيشة في فلسطين، تبقى محفوفة بثمن نفسي باهظ يدفعه الأفراد لاحقًا حين تتراجع لحظة الخطر المباشر ويعلو صوت الذكريات المؤلمة.

إن التمسك بالأمل ومواصلة الحياة رغم الحصار والقصف وفقدان الأحبة يمنحان نوعا من التوازن النفسي المؤقت، لكنه توازن هشّ محفوف بالتعب الداخلي والإنهاك العاطفي. ومع استمرار الصدمات المتلاحقة وغياب فرص التعافي، تتراكم الضغوط النفسية بصمت لتتحول إلى معاناة مؤجلة قد تظهر فجأة في شكل انهيارات نفسية أو اضطرابات انفعالية أو سلوكيات يائسة.

وما يجري على أرض الواقع لا يحتاج إلى تفسير طويل؛ فمشاهد الإبادة والقصف ليست مجرد لقطات عابرة، بل تجارب تهشم الوجدان الإنساني، من استشهد رحل لكن السؤال المؤلم: ماذا عن الأحياء؟ هؤلاء الذين كتب عليهم النجاة من الموت فهم لا يعيشون حياة طبيعية، بل يكابدون يوميًا وجع الفقد ومرارته، ويحملون فوق أكتافهم أثقالًا نفسية لا تُرى.

من بقي على قيد الحياة فقد بيته ومأواه وذكرياته، يفترش الأرض ويلتحف السماء في خيام لا تقي بردًا ولا تحفظ كرامة، يقف في طوابير طويلة ليحصل على لقمة بسيطة أو قطرات ماء، بينما يطارده الخوف على من تبقى من أهله، يعيش حالة انقطاع عن الشعور بالأمان، وتآكل الخصوصية، وفقدان القدرة على التخطيط للمستقبل، لأن الحاضر نفسه أصبح معركة بقاء لا تنتهي.

لهذا كله، لم يعد التدخل النفسي في الحالة الفلسطينية ترفًا أو عملًا ثانويًا، بل ضرورة إنسانية عاجلة؛ فالمطلوب ليس خطابًا وشعارات عن الصمود، بل برامج دعم نفسي مجتمعي واعية تحمي ما تبقى من توازن داخلي، وتساعد الناس على مواجهة الألم بدل دفنه في أعماقهم حتى ينفجر، المطلوب أن يكون الصمود واعيًا لا مفروضًا، إنسانيًا لا أسطوريًا، يحفظ الإنسان بدل أن يستهلكه.

ومن كل ما سبق يتضح من التحليل أن الانهيار النفسي المؤجل يمثل نتيجة طبيعية لضغوط الحرب المزمنة عندما تتجاوز طاقة الفرد وحدود صلابته النفسية، وفي المقابل فإن الصلابة النفسية وظيفة دفاعية–تكيفية تسهم في حماية الإنسان وتساعده على الاستمرار، وتجسد الحالة الفلسطينية توازنًا نادرًا بين الألم والصمود، بين الانهيار والانبعاث من جديد.

المراجع

الحداد، محمود. (2012). الصدمة النفسية في المجتمع العربي. مكتبة الأنجلو.

السقا، عماد. (2019). ديناميات الصمود في المجتمع الفلسطيني. مركز رؤية.

عبد الله، محمد. (2017). الآثار النفسية للحروب والصراعات. دار المسيرة.

وزارة الصحة الفلسطينية. (2021). التقرير السنوي للصحة النفسية في فلسطين.
American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (5th ed.).
Bonanno, G. (2004). Loss, trauma, and human resilience. American Psychologist, 59(1), 20–28. https://doi.org/10.1037/0003-066x.59.1.20

Brewin, C. (2014). Posttraumatic Stress Disorder. Oxford University Press.
Freud, S. (1926). Inhibitions, Symptoms and Anxiety. London: Hogarth Press.
Herman, J. (1992). Trauma and Recovery. Basic Books.
Hobfoll, S. E., Stevens, N. R., & Zalta, A. K. (2015). Expanding the Science of Resilience: Conserving Resources in the Aid of Adaptation. Psychological Inquiry, 26(2), 174–180. https://doi.org/10.1080/1047840x.2015.1002377

Kobasa, S. C. (1979). Stressful life events, personality, and health: An inquiry into hardiness. Journal of Personality and Social Psychology, 37(1), 1–11. https://doi.org/10.1037/0022-3514.37.1.1

Maddi, S. R. (2002). The story of hardiness: Twenty years of theorizing, research, and practice. Consulting Psychology Journal: Practice and Research, 54(3), 173–185. https://doi.org/10.1037/1061-4087.54.3.173

Qouta, S., Punamäki, R.-L., & El Sarraj, E. (2008). Child development and family mental health in war and military violence: The Palestinian experience. International Journal of Behavioral Development, 32(4), 310–321. https://doi.org/10.1177/0165025408090973 Mental Health and Psychosocial Support (MHPSS) in Gaza | UNRWA. (2024). UNRWA. https://www.unrwa.org/resources/reports/mental-health-and-psychosocial-support-mhpss-gaza

Facebook
Twitter
WhatsApp