اختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة

يُعدّ الذكاء من المفاهيم الأساسية علم النفس، ويحظى بأهمية كبيرة وتتعدد تعريفاته ونظرياته، وتُعدّ نظرية كاتل التي تميّز بين الذكاء السائل الفطري غير المتأثر بالثقافة، والذكاء المتبلور المكتسب عبر الخبرة نقطة تحول مهمة، إذ أسهمت في تطوير اتجاه جديد في القياس العقلي يُعرف باختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة، التي تهدف إلى قياس الذكاء مع استبعاد تأثير اللغة والثقافة، ما يتيح استخدامها مع أفراد من ثقافات ولغات متنوعة.

تهدف هذه المقالة إلى التعريف الموجَز بهذا النوع من الاختبارات، إذ تتعرف -عزيزي القارئ- في هذه المقالة إلى بعض تعريفات الذكاء، ثم أبرز مفاهيم نظرية كاتل، ثم اختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة، من حيث المفهوم والأهمية وأبرز الصفات وأشهر تلك الاختبارات.

الذكاء:

يُعد الذكاء من أكثر المفاهيم شيوعًا في علم النفس، وأكثرها صلة بالتحصيل والنجاح الأكاديمي، وله تأثير واضح في حياة الناس في كافة جوانبها ومراحلها، ولم يحظ باتفاق حول تعريفه بين علماء النفس، إذ تعددت تعريفاته واختلفت باختلاف نظرة كل واحد منهم حوله، وباختلاف المفهوم الذي يكونه كل منهم حول هذه القدرة العقلية العامة، وعلى الرغم من أن معظم التعريفات تتحدث عن قدرة الفرد إلا أنه يوجد عدم اتفاق على القدرة التي تشير إليها تلك التعريفات، فوكسلر يعرفه بأنه: القدرة الكلية للفرد على التصرف الهادف والتفكير المنطقي والتعامل الكفؤ مع البيئة، ويعرفه تيرمان تعريفًا مختصرًا فيقول إن الذكاء هو القدرة على التفكير المجرد. (أبو غزال، 2015، ص. 155)

الذكاء السائل والذكاء المتبلور (المتأثر بالثقافة):

ميّز كاتل بين نوعين من الذكاء هما: الذكاء السائل الذي يعبر عن القدرة الفطرية غير المتأثرة بالثقافة، والذكاء المتبلور وهو القدرة العقلية كما تشكلت نتيجة للتعلم والخبرة، وتنبع أهمية نظرية كاتل من دورها في تسليط الضوء على التفرقة بين قدرات الذكاء ذات الأساس البيولوجي، وبين القدرات ذات الأساس الثقافي في فهم وقياس الذكاء، إذ كانت الأساس لما عرف فيما بعد باختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة. (طه، 2006، كما ورد في أبو غزال، 2015، ص. 161)

اختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة:

تمثل اختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة منحنى خاصاً متميزًا في حركة القياس العقلي يقوم على إمكان استبعاد أثر الفروق القائمة بين الثقافات المختلفة في الأداء الاختباري وقد كان الهدف من تصميم هذه الاختبارات توفير أدوات تصلح لقياس ذكاء الأفراد من لغات وثقافات مختلفة، بالإضافة إلى الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافات فرعية مختلفة في إطار المجتمع الواحد، أو لا يتقنون اللغة السائدة في هذا المجتمع كالمهاجرين، ومن المعلوم أن مقاييس الذكاء الشائعة تعتمد على الأداء اللفظي بصورة أساسية وتتطلب استخدام لغة معينة، كما تتضمن بعض المهمات والنشاطات العقلية الخاصة بثقافة معينة مما يجعلها غير قابلة للاستخدام مع الأفراد غير الناطقين باللغة، أو الذين لا يتقنونها بصورة كافية، كما يحد من فعاليتها في قياس ذكاء الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافات أخرى حتى لو تمت ترجمتها إلى اللغات الشائعة في تلك الثقافات، ومن الواضح أنه سيكون من غير المجدي تطبيق اختبار للذكاء صيغت أسئلته باللغة الإنكليزية على أشخاص لا يتكلمون بهذه اللغة أو لا يتقنونها بدرجة كافية، كما سيكون من غير المجدي توجيه أسئلة تتعلق بأجهزة اللايزر أو الحاسوب لأشخاص لم تهيئ لهم بيئتهم الثقافية الفقيرة السماع بهذه الأشياء، ويطلق على اختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة: الاختبارات المحايدة ثقافيًا أو الاختبارات عبر الثقافية أو العالمية. (مخائيل، 2021، ص.480)

أهمية اختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة وأبرز صفاتها:

ذكر مخائيل (2021) أن الاختبارات عبر الثقافية تسعى إلى تحييد أثر تلك العوامل أو الأبعاد التي تختلف فيها الثقافات ويكون لها دورها في أداء المفحوصين ذوي الانتماءات الثقافية المختلفة أو التخفيف من وطأتها على الأقل، ومن أبرز الصفات المهمة لاختبارات الذكاء عبر الثقافية:

1. مادة هذه الاختبارات هي من النوع غير اللفظي، وتتألف من صور ورسوم وأشكال، يُعتقَد أنها واسعة الانتشار في الثقافات المختلفة.

2. استعمال مواد وطرائق مثيرة لاهتمام المفحوصين لإثارة الدافعية.

أشهر اختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة:

1. اختبار رسم الرجل:

أعدّت الاختبار الباحثة الأمريكية جودانف عام 1926، وكانت تهدف إلى إعداد اختبار عادل ثقافيًا، ثم ظهر تعديل له عام 1963 عُرف باسم “اختبار الرسم لجودانف-هاريس”، ويُطلب في هذا الاختبار رسم صورة لرجل، ويكون التقدير على أساس دقة الطفل في الملاحظة وارتقاء تفكيره المجرّد، أي تطور تصوره لموضوع مألوف في البيئة، دون الاهتمام بالمهارة الفنية في الرسم. (الشيخ، 2014، ص. 126)

2. اختبار المصفوفات لرافن:

تُعد مصفوفات رافن (Raven) من اختبارات الذكاء غير اللفظي، وهي خالية من تأثير الثقافة إلى حد كبير. (علي، 2016)

يطلب إلى المفحوص أن يتعرف على العنصر المفقود الذي يكمل النمط، وتظهر الكثير من الأنماط في شكل مصفوفات، ومن هنا أخذ الاختبار تسميته، وهناك ثلاثة أشكال من هذه المصفوفات: المصفوفات المتتابعة المقياسية أو المعيارية (وهي النموذج الأصلي للمصفوفات)، المصفوفات المتتابعة الملونة، المصفوفات المتتابعة المتقدمة. (أبو شنار، 2024، ص. 73)

3. اختبار لايتر الأدائي العالمي:

يُعد أحد الاختبارات الرائدة في تقييم الذكاء غير اللفظي، صُمم لقياس القدرات المعرفية دون الحاجة إلى استخدام اللغة المنطوقة، وطُوّرت الصورة الأولى من المقياس في ثلاثينيات القرن العشرين على يد (Russell G. Leiter)، بإسهام من عالم النفس الإكلينيكي (Stanley D. Porteus)، وكان الهدف الأساسي من تطويره توفير أداة تقييمية صادقة للأفراد الذين لا يجيدون اللغة الإنجليزية أو الذين يعانون من صعوبات لغوية، ما جعله يُستخدم على نطاق واسع في البيئات متعددة اللغات والثقافات. (بدرانه، 2025)

لايتر (LEITER-3) هو مقياس فردي مصمم لتقييم الوظائف المعرفية لدى الأطفال والمراهقين والبالغين، أي من عمر 3 سنوات حتى 75 عامًا، ويتضمن قياس الذكاء غير اللفظي في طريقة التصور والاستنتاج، والهدف منه بناء مقياس موثوق غير لفظي للقدرة الإدراكية، والذاكرة والانتباه. (حمدان، 2016، ص. 16)

نظرة تأملية في اختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة:

لا بد من الاعتراف أن تصميم اختبارات لا تعتمد على خلفية ثقافية ما ومحايدة تمامًا أو غير منحازة لثقافة معينة هو أقرب للخيال كما يقول جرونلند؛ فالصور والرسوم والأشكال التي قد تتضمنها هذه الاختبارات لا بد أن تمثل أشياء واقعية بدرجة ما، وتشيع في ثقافة معينة ولا تشيع بالدرجة نفسها في ثقافة أخرى، وهذا يعني أن المحتوى غير اللفظي لهذه الاختبارات يستحيل عزله أو فصله عن إطار الخبرة السابقة للمفحوصين. (مخائيل، 2021، ص.482)

يتّضح مما سبق أن اختبارات الذكاء غير المتأثرة بالثقافة جاءت استجابة لحاجة ملحّة في القياس النفسي، لتجاوز تأثير اللغة والسياق الثقافي في نتائج تقييم القدرات العقلية، ومن أشهر تلك الاختبارات اختبار رسم الرجل واختبار المصفوفات لرافن واختبار لايتر، لكن التحديات لا تزال موجودة من حيث صعوبة تصميم اختبارات محايدة تمامًا أو غير منحازة لثقافة معينة، ويبقى سؤال الحياد الكامل مطروحًا أمام الباحثين والاختصاصيين، ويستدعي المزيد من البحث والتطوير لضمان دقة القياس وصلاحيته في بيئات متنوعة.

المراجع:

أبو شنار، فؤاد. (2024). دليل المرشد النفسي المبتدئ في أدوات التقييم والاختبارات النفسية. دار اليازوري العلمي.

أبو غزال، معاوية. (2015). علم النفس العام (ط.2). دار وائل للنشر.

بدرانه، عمر. (2025، فبراير 11). مقياس لايتر الأدائي العالمي للذكاء: النشأة والتطور، الصورة الأصلية. شركة بانا للاستشارات والأبحاث والتدريب. اُستُرجع في 10 آب 2025، من https://banacenter.com/مقياس-لايتر-الأدائي-العالمي-للذكاء-ال/

حمدان، أحمد. (2016). تقنين مقياس لايتر (LEITER-3) للذكاء غير اللفظي على البيئة الأردنية لتشخيص مجموعة من اضطرابات الطفولة [رسالة ماجستير منشورة، جامعة عمان الأهلية]. دار المنظومة.

الشيخ، سليمان الخضري. (2014). سيكولوجية الفروق الفردية في الذكاء (ط.4). دار المسيرة.

علي، عماد أحمد حسن. (2016). اختبار المصفوفات المتتابعة الملونة. مكتبة الأنجلو المصرية.

مخائيل، امطانيوس. (2021). القياس النفسي (ج.1). منشورات جامعة دمشق.”

Facebook
Twitter
WhatsApp