المثير وإن كان ذاته، أضحت الاستجابة متغيرة؛ فعمليات التحور بفعل البيئة المحتوية للمثير جعلت الاستجابة له على نحو مغاير لما كانت عليه، هذه الحقيقة تتجلى بوضوح في تحوُّل تجربة الامتحان بين مرحلة المدرسة والحياة الجامعية، بين رهبة الموقف بتفاصيله وحقيقة الحدث الواقعية، إذا اتصفت ردود الفعل بالعقلانية، تبدأ كل أركان الموقف في مرحلة الدراسة في المدرسة بالتلاشي بعد دخول الجامعة.
في المدرسة، يعيش غالباً الطالب حالة من التوتر المستمر، حيث تكون الامتحانات مصحوبة بمزيج من القلق، وضغط الأسرة والمعلمين، فيتضاعف الشعور بالخوف من الفشل لديه، حيث يبدو كل امتحان كأنه عقبة كبيرة لا يمكن تجاوزها إلا بجهد مكثف وتحضير شديد، فهو يمثل “تهديداً وجودياً” في نظر الطالب، وتعزز هذه النظرة بنظرة المجتمع التعليمي المحيط به.
وعند الانتقال إلى الجامعة، لم يعد رعب الامتحان يسيطر على نسبة من الطلبة، بل صار موقفاً عادياً كثير التكرار، يواجهه الطالب بروية وتوازن أكبر، لقد أسهمت التجارب المتكررة والخبرات الأكاديمية الجديدة في إعادة تشكيل مفهوم الخوف والقلق، فتحولت النظرة إلى الامتحان من تهديد إلى تحدٍ يمكن التعامل معه.
هذا التحول النفسي لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة لتطورات جوهرية:
يتعلم الطالب الجامعي مهارات إدارة الوقت وتنظيم الدراسة بشكل فعال، لاكتساب القدرة على وضع أولويات واضحة بين المواضيع المختلفة، ويطور أساليب دراسة متنوعة كالمراجعة الجماعية، واستخدام الملخصات، وحل أسئلة الامتحانات السابقة، وهذه المرونة تمنحه شعوراً بالسيطرة على الموقف وتقلل من التوتر النفسي المصاحب للامتحان.
يضاف الى ذلك طبيعة التحول في المعرفة ولم يعد التحضير للامتحان الجامعي مجرد عملية لحفظ المعلومات واسترجاعها، بل أصبح نشاطاً فكرياً مركباً يقوم على التحليل والتركيب والنقد؛ فالطالب لا يبحث عن “الإجابة النموذجية” فحسب، بل يُتوقع منه تقديم رؤيته الخاصة مدعمة بالأدلة، وهذا التحول من “ثقافة الإجابة” إلى “ثقافة السؤال والبحث” يحوّل الطالب من متلق سلبي إلى شريك فاعل في عملية المعرفة.
وعلى صعيد آخر تتطور لدى الطالب الجامعي مهارات التأقلم الاجتماعي والنفسي، فيتعلم كيفية التعامل مع الضغوط الفردية والجماعية، ويستفيد من التفاعل مع زملائه لتبادل الخبرات والنصائح ويزداد وعيه بأهمية الاعتناء بصحته النفسية والجسدية خلال فترات الامتحانات، من خلال الحصول على النوم الكافي، وممارسة الرياضة، والحفاظ على التغذية الصحية.
وهذا التحول لن يحصل دون بيئة حاضنة حيث تؤدي بيئة الجامعة ذاتها دوراً محورياً في تعزيز هذا التفكير العقلاني؛ فاختلاف أساليب التقويم التي قد تشمل الأبحاث والعروض التقديمية إلى جانب الامتحانات، يخففان من التركيز على الامتحان كمحك وحيد، ودراسة المواد التي يجد فيها الطالب شغفه تضفي على عملية التعلم معنى أعمق، فتبدأ ملامح التخصص الحقيقي في الظهور، ما يحول الدافع من الخوف من الفشل إلى الشغف بالتحصيل.
وكأن الطالب الجامعي قد وجد ضالته في تلمس معنى معاناته، لذا لم يعد يرى الامتحان كتهديد وجودي، ولم تعد الدراسة ألماً بلا معنى بل كموقف يتطلب استعداداً عقلانياً ومنهجياً؛ فيصبح القلق مصحوباً بالحافز بدلاً من الرعب، ما يعزز القدرة على الأداء الفعال وهذا التحول النفسي يشير إلى نمو الشخصية الجامعية واكتسابها مهارات إدارة الضغوط، وهو جزء من عملية النضج الأكاديمي والاجتماعي التي تعد الطالب لمواجهة تحديات الحياة العملية بعد التخرج.
وعليه يمكننا القول إن الانتقال من المدرسة إلى الجامعة مرحلة فاصلة في تطور الطالب النفسي والمعرفي، حيث قد يتحول الخوف من الامتحان من شعور مهيمن إلى موقف عابر، يتم التعامل معه بعقلانية، ومع كل تجربة تتراكم الخبرات وتتعزز القدرة على مواجهة الصعوبات بثقة ووعي أكبر، وما يحدث للطالب هو تجسيد لفكرة “الاعتياد” و”اكتساب الخبرة” التي تنطبق على معظم مواقف الحياة المقلقة، فمع التكرار واكتساب الأدوات والمعرفة، تتهاوى أسوار الخوف، لتحل محلها ثقة ناضجة قائمة على الفهم والاستعداد.
ولم تعد تلك الجملة الشهيرة المرعبة في أروقة المدارس “ضع القلم” (إشارة لانتهاء الامتحان) التي في مضمونها تعني نهاية النهايات، سوى جملة عادية في أقصى معانيها الجامعية أن الوقت قد نفد، فانتقلت العبارة من كونها إشارة للخسارة والخوف إلى رمز للنضج والانتهاء الواعي، إذ صار الطالب يدرك أن ما يهم ليس نهاية الورقة، بل ما كتبه فيها من فكرٍ وجهدٍ وتعبير عن ذاته، وقد يضع القلم قبل أن يسمع “ضع القلم”.









