في العاشر من أيلول )سبتمبر (كان اليوم العالمي لمنع الانتحار، الانتحار ومحاولات الانتحار غير المكتملة والأفكار الانتحارية من ضمن الموضوعات التي لا نود الحديث عنها كثيرًا، فهي تشبه الموت في أثرها النفسي على محيط المتوفى، ولكنها أيضًا تجعل المجتمع والمقرّبين يتحمّلون المسؤولية: مسؤولية الإهمال، أو عدم تقديم المساعدة، أو حتى الإساءة.
قد يشعر الجميع في حالات الانتحار وكأنهم جزء من الجريمة، لذا يكون الحديث عنه شبه تابوت مطبّق وصامت، ويترافق الانتحار أيضًا مع مشاعر العار والخزي، حيث تنتشر قصص غامضة حول سبب الانتحار، والتي قد تلاحق العائلة حتى الجيل الثاني أو الثالث، لكن…
هل الانتحار هو أن يقتل الإنسان نفسه بنفسه فقط؟
أن يبتلع شريطًا من الحبوب أو أن يطلق رصاصة في فمه كما نشاهد في الأفلام؟
هل يحدث فجأة؟
هل هناك أنواع؟
هل يمكن أن يحدث لدى الأطفال أم أنه متعلق بالراشدين فقط حيث ينتج عن ضغوط وصعوبات الحياة والأمراض النفسية المعقدة؟
تعريف الانتحار والأفكار الانتحارية
من المهم التمييز بين الانتحار ومحاولات الانتحار والأفكار الانتحارية، لأن كل مستوى منها يعكس درجة مختلفة من الخطورة والتدخل المطلوب. (Silverman et al., 2007)
الأفكار الانتحارية:
الأفكار السوداء أو الأفكار الانتحارية هي في الحقيقة الشيء نفسه، هي أفكار ترى أن الانتحار هو الحل الوحيد والنهائي لوضع معيّن، لمعاناة نفسية، أو لضيق عاطفي، أو لوضع صعب للغاية يراه الشخص غير محتمل، ومع مرور الوقت، قد يحكم الشخص أن هذه المعاناة لا تُطاق لدرجة أنه يقتنع بأن الانتحار هو الشيء الوحيد الذي قد يخلّصه من هذه المعاناة وهذه الضائقة، ويمكن أن نسمع أيضًا مصطلحات مثل “الانشغال الانتحاري” أو “التفكير الانتحاري”، وهناك العديد من التسميات التي تُستخدم للتعبير عن هذا النوع من التفكير (O’Connor & Pirkis, 2016) .
محاولة الانتحار:
سلوك يقوم فيه الفرد بعمل يهدف إلى إنهاء حياته، لكنه لا يؤدي إلى الوفاة، إما لفشل الوسيلة أو لتدخل خارجي.
الانتحار:
بحسب منظمة الصحة العالمية هو فعل قتل المرء نفسه عمداً، فالانتحار هو الموت الناجم عن فعل إيذاء للنفس يُقصد منه أن يكون مميتًا.
هذا التفريق مهم لفهم المسار الانتحاري، ولتحديد نوع التدخل المطلوب في كل حالة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO, 2025)هناك أكثر من727,000 حالة وفاة بالانتحار حول العالم سنويًا، وتشكل الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل نحو 73% من هذه الحالات، الانتحار أيضاً هو السبب الثالث للوفاة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة كما أنه يُشكّل تقريبًا 1.1% من مجموع الوفيات العالمية، ويؤثر السلوك الانتحاري تأثيرًا شديدًا في الأسر والمجتمعات، ويظل تحديًا عالميًا يُؤثر في ملايين الأشخاص.
علامات التحذير والأزمة الانتحارية
وفقًا لـ Baltazar(2023) هناك ثلاث فئات رئيسة من علامات التحذير التي تستوجب الانتباه الفوري:
1. التعبير اللفظي المباشر:
إذا قال الشخص بوضوح: “أريد أن أنتحر” أو “أريد أن أموت”، فهنا لا مجال للشك، ويجب التعامل مع الأمر فورًا كحالة طارئة.
2. التعبير غير المباشر:
قد يستخدم الشخص عبارات أقل صراحة لكنها تدل على معاناة خطيرة، مثل: “أريد أن أختفي”، “أريد أن أرتاح”، “لم أعد أتحمّل”، هذه العبارات تندرج ضمن ما نسمّيه عوامل الضعف أو الهشاشة النفسية.
3. التلميحات الخفية:
أحيانًا يقول الشخص مثلًا “بعد فترة، كل شيء سيكون أفضل “إذا لم يكن هناك سبب واضح يجعل الأمور تتحسن، ومع وجود أعراض أخرى، فقد يكون قصده أنه يخطط للانتحار، هذه التلميحات تدخل ضمن ما يُعرف بـ مظاهر الأزمة الانتحارية، حيث إن الانتحار لا يأتي بشكل معزول، بل يحدث في إطار ما يُسمّى بالأزمة الانتحارية، وهي تغيّر في التوازن النفسي يجعل الشخص يدخل في حالة أزمة داخلية.
تشمل هذه الأزمة أعراضًا شائعة مثل: فقدان الشهية أو الإفراط في الأكل (النَّهَم)، التهيّج أو الاندفاعية، الشعور بالفشل أو بعدم القيمة، انخفاض تقدير الذات وصورة سلبية عن النفس، اضطرابات النوم، فقدان المتعة بالحياة أو بما كان يثير الاهتمام سابقًا. (Baltazar, A. 2023)
لكن يجب التنبيه: كل علامة من هذه العلامات إذا أُخذت بشكل منفصل لا تعني بالضرورة وجود خطر انتحاري، الخطورة تظهر عندما تجتمع عدة عوامل معًا، وخاصة إذا لاحظنا تغيّرًا مفاجئًا في سلوك الشخص المعتاد.
الانتحار في الأدب العربي والعالمي:
احتلّ موضوع الانتحار موقعًا بارزًا في الأدب، حيث استُخدم تارةً كرمز للاحتجاج على القهر الاجتماعي والسياسي، وتارةً كوسيلة فنية لتجسيد اليأس والاغتراب.
في الأدب العربي، تناول عبد الرحمن منيف الانتحار بوصفه صرخة صامتة ضد القمع، ففي رواية شرق المتوسط (1975) يُصوَّر بطل الرواية “رجب” وهو يقترب من حافة الفناء تحت وطأة السجن والتعذيب، حيث ترد على لسانه إشارات واضحة بأن العذاب قد يدفع الإنسان إلى التفكير في الانتحار: السجن يا أنيسة في داخل الإنسان… إنّ مجرد تصوّر هذا عذابٌ يدفع بالإنسان إلى الانتحار.
في الأدب العالمي، نجد أن الانتحار كثيرًا ما يُطرح كنتيجة لليأس العاطفي أو الوجودي، ففي آنا كارنينا (تولستوي، 1877) تختار البطلة الموت تحت القطار بعد انهيار علاقتها، قائلة: لن أستطيع أن أسامحه أبدًا… ما العمل إذن؟ لا يبقى إلا الموت.
وفي مدام بوفاري (فلبير، 1857)، تعبّر إيما عن يأسها بقولها: الموت هو الشيء الوحيد الذي لا يخون.
وفي الجريمة والعقاب (دوستويفسكي، 1866)، يعلن “سفدريغيلوف: لا أستطيع أن أتحمل أكثر… إن العيش عبء أثقل من أن يُحتمل.
كما يبقى مونولوج شكسبير الشهير في هاملت (1603) أحد أعمق النصوص التي تأملَت في جدوى الحياة والانتحار:
أن تكون أو لا تكون… ذلك هو السؤال؛ أيهما أشرف للنفس: أن تتحمل سِهام القدر الجائر، أم أن تسلّ السيف في وجه بحر من الهموم، وتنهيها بالموت؟
الفئات الأكثر عرضة للانتحار:
تشير منظمة الصحة العالمية (WHO, 2019) إلى أنّ المراهقين والشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و25 عامًا، إضافةً إلى كبار السن، يُعدّون من أكثر الفئات عرضة للانتحار، إذ تمثّل مرحلتا الانتقال إلى سن الرشد والشيخوخة فترات حرجة تتزايد فيها المخاطر، كما توضح منظمة الأمم المتحدة للطفولة – اليونيسف (UNICEF, 2021) أنّ الأشخاص الذين يواجهون صعوبات مرتبطة بالهوية الجنسية يسجّلون نسبًا أعلى من الأفكار والمحاولات الانتحارية مقارنة بغيرهم، وتؤكد منظمة الصحة العالمية (WHO, 2021)، إلى جانب دراسات أخرى، أنّ خطر الانتحار يرتفع لدى الأفراد المصابين باضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، أو لدى من يعانون من أشكال الإدمان كالتدخين والكحول والمخدرات، كذلك فإن المرور بأحداث حياتية ضاغطة، مثل الانفصال أو فقدان شخص مقرّب، قد يُثير أو يُسرّع ظهور الأفكار الانتحارية.
الانتحار لدى الأطفال والمراهقين:
رغم أنّ الطفولة غالبًا ما تُصوَّر كمرحلة بريئة بعيدة عن هذه الأفكار، تكشف الإحصاءات العالمية أنّ الأطفال والمراهقين ليسوا بمعزل عن الانتحار، فقد سُجِّل عالميًا في عام 2019 نحو 1.3 حالة وفاة انتحارية لكل 100,000 طفل تتراوح أعمارهم بين 10 و14 سنة (SpringerLink, 2020). أما لدى المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و19 سنة، فأظهرت دراسة شملت بيانات من 90 دولة أنّ متوسط معدل الانتحار يبلغ إلى 7.4 حالة وفاة لكل 100,000 شخص. ((Wasserman.2005
مساندة شخص مقرّب يعاني من الأفكار الانتحارية:
في ظل افتقار بلادنا الى الدعم المؤسسي للاضطرابات النفسية بشكل عام وللأشخاص المعرضين للانتحار، يبقى الدعم الأسري والمجتمعي هو الأساس في حماية من حولنا من محاولة انهاء حياتهم.
يمكن تقديم الدعم عبر خطوات أساسية:
- التعرف على علامات الإنذار :مثل تغيّر سلوك الشخص فجأة (كان مرحًا وأصبح منعزلاً، أو بدأ يتحدث عن الموت أو الرحيل).
- الانتباه إلى العبارات المقلقة: حتى لو لم تكن صريحة، فهي غالبًا إشارات إلى معاناة عميقة.
- الثقة بالحدس :إذا ساورنا القلق، يجب أخذ الأمر بجدية.
- أهمية السؤال المباشر: «كيف حالك؟“ كيف تشعر هذه الفترة؟“، هل هناك أمور لا تسير على ما يرام؟“، هل أستطيع أن أساعدك؟، تشير نتائج دراسة واسعة أجراها (2005) Gould et al وشملت 2342 مراهقاً من ست مدارس ثانوية في ولاية نيويورك، إلى أن طرح الأسئلة المباشرة حول الانتحار، مثل سؤال المراهقين: “هل لديك أفكار انتحارية؟”، لا يؤدي إلى زيادة خطر الانتحار أو إلى إثارة تلك الأفكار لديهم كما كان يُعتقد سابقاً، على العكس أظهرت النتائج أنه لم تُسجَّل أي زيادة في مستويات الضيق النفسي أو في معدلات الأفكار والسلوكيات الانتحارية بين الطلاب الذين وُجِّهت إليهم هذه الأسئلة مقارنة بغيرهم.
بل إن البيانات أوضحت أن هذا النوع من الأسئلة قد يكون له أثر إيجابي، حيث شجع بعض المراهقين – وخاصة الذين يعانون من أعراض الاكتئاب أو لديهم محاولات انتحار سابقة – على الإفصاح عن معاناتهم، الأمر الذي يتيح فرصة للتدخل المبكر، كما أن هذه المقاربة عززت من شعور الطلاب بالدعم والاهتمام، وكشفت لهم أن هناك من هو مستعد للاستماع والتفهم، مما يخفف من شعورهم بالعزلة.
أهمية العلاج النفسي:
الدعم الاجتماعي هو أهم عامل للحماية من الانتحار لكن أحيانًا لا يكفي، وهنا تأتي أهمية: المتابعة النفسية مع اختصاصي الأدوية المضادة للاكتئاب بعد الرجوع الى طبيب نفسي مختص، طلب المساعدة النفسية ليس أمرًا مخجلاً، بل هو دليل وعي ونضج، بل حتى الأطباء النفسيون أنفسهم قد يستعينون بزملائهم في بعض المراحل.
الوعي المجتمعي:
الانتحار موضوع معقد ومتعدد الأبعاد، فهو ليس مجرد فعل فردي معزول، بل هو نتاج تفاعل بين عوامل نفسية، اجتماعية، ثقافية واقتصادية، إدراك المجتمع لخطورة الانتحار والتعامل معه كقضية صحة عامة يساعد على تقليل نسب حدوثه، الحديث عنه لا يزيد من خطره، بل يفتح باب الحوار والدعم ويكسر جدار الوصمة.
من المهم أن نتذكر أن الأفكار الانتحارية قد تراود أي شخص، بغضّ النظر عن عمره أو خلفيته، وأن الوقاية تبدأ من الإصغاء، الحوار، وتقديم الدعم الاجتماعي والنفسي في الوقت المناسب، وبقدر ما نُعزّز الوعي، ونوفّر شبكات دعم متاحة، ونضمن وصولًا سهلًا إلى خدمات الصحة النفسية، يمكننا أن نحمي الأرواح ونقدّم الأمل بدلًا من الصمت.
المراجع:
American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (5th ed.). Arlington, VA: American Psychiatric Publishing.
Baltazar, A. (2023). Self-Harm: Warning Signs, Risk Factors, and Prevention. Journal of Family Research and Practice, 3(1).
Dostoevsky, F. (2002). Crime and Punishment (Richard Pevear ,Translator). Vintage Classics.
Flaubert G., Bowie, M., & Overstall, M. (2004). Madame Bovary. OUP Oxford.
Gould, M. S., Marrocco, F. A., Kleinman, M., Thomas, J. G., Mostkoff, K., Cote, J., & Davies, M. (2005). Evaluating iatrogenic risk of youth suicide screening programs: A randomized controlled trial. JAMA, 293(13), 1635–1643.
Joiner, T. E., Van Orden, K. A., Witte, T. K., & Rudd, M. D. (2005). The interpersonal theory of suicide: Guidance for working with suicidal clients. American Psychological Association.
Simas, B. A, K. R., Reynolds, L., Saymeh, M., Khazaeipool, Z., Altakorni, H., Crosse, K., Bezzahou, A., & Bazaid, K. (2024). Examining the State of Suicidality in Youth and Young Adults: A Scoping Review of the Literature on Suicidality across Muslim and Arab Countries from January 2000 to March 2024. Psychiatry and Psychological Disorders, 3(2). https://doi.org/10.58489/2836-3558/023
O’Connor, R. C., & Pirkis, J. (2016). The International Handbook of Suicide Prevention. Wiley-Blackwell.
Silverman, M. M., Berman, A. L., Sanddal, N. D., O’Carroll, P. W., & Joiner, T. E. (2007). Rebuilding the tower of Babel: A revised nomenclature for the study of suicide and suicidal behaviors. Suicide and Life-Threatening Behavior, 37(3), 264–277.
Michalek Ir. M., Koczkodaj P., Michalek, M., & Luciano, F. (2024). Unveiling the silent crisis: global burden of suicide-related deaths among children aged 10–14 years. World Journal of Pediatrics. https://doi.org/10.1007/s12519-023-00781-
UNICEF. (2021). Mental health of adolescents in the Middle East and North Africa. UNICEF Regional Report.
World Health Organization. (2023). Suicide worldwide: Global health estimates and factsheet. Geneva: World Health Organization. Retrieved from https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/suicide
World Health Organization Regional Office for the Eastern Mediterranean ]WHO EMRO[. (2021). Suicide prevention in the Eastern Mediterranean Region. WASSERMAN, D., CHENG, Q., & JIANG, G.-X. (2005). Global suicide rates among young people aged 15-19. World Psychiatry, 4(2), 114. https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC1414751/









