هل تساءلت يومًا لماذا نشعر بالقلق أو الحزن تجاه مواقف يمر بها الجميع؟
ولماذا يتصرف أحدهم بثقة بينما يعيش آخر حالة من الانسحاب والخجل أمام الحدث ذاته؟
يجيب العلاج المعرفي السلوكي (CBT) عن هذا التساؤل من خلال مفهوم المعتقدات الراسخة أو الجوهرية.
هذه المعتقدات التي تتشكل في الطفولة غالبًا وتستمر معنا دون وعي، تلون تجاربنا اليومية وتؤثر بشكل عميق في سلوكنا ومشاعرنا، فالفكرة المركزية في CBT هي أن الإنسان لا يضطرب بسبب الأحداث نفسها، بل بسبب تفسيره لها عبر أنماط معرفية راسخة تؤثر على نظرته لذاته وللآخرين وللعالم (Beck, 2011).
ما المعتقدات الراسخة؟
المعتقدات الراسخة (Core Beliefs) هي أفكار عميقة وغير مشروطة يتبناها الفرد عن نفسه، مثل: “أنا فاشل”، “أنا غير محبوب”، أو “لا يمكن الوثوق بأحد”، تكون هذه الأفكار غالبًا غير واعية، لكنها تنشط في لحظات التوتر أو الفشل، وتؤدي إلى ردود فعل انفعالية وسلوكية قد تكون مبالغًا فيها أو غير متكيفة مع الواقع، يرى بيك أن هذه المعتقدات تمثل جوهر المعاناة النفسية لدى كثير من المرضى، حيث تعمل كعدسة معرفية يرى الإنسان من خلالها نفسه والعالم (غرينبرغر وباديسكي، 2001، ص. 25)، وتُصنف هذه المعتقدات إلى فئتين رئيسيتين وفقًا لبيك: معتقدات مرتبطة بالعجز مثل “أنا ضعيف” أو “أنا غير كفء”، ومعتقدات تتعلق بعدم الاستحقاق أو المحبة مثل “أنا غير محبوب” أو “أنا مرفوض” (غرينبرغر وباديسكي، 2001، ص. 120).
الافتراضات والقناعات الأساسية
يمكن تشبيه العلاج المعرفي السلوكي بحديقة الأفكار؛ حيث إن الأفكار التلقائية السلبية تشبه الأعشاب الضارة التي تنمو على السطح، بينما المعتقدات الراسخة هي جذور هذه الأعشاب العميقة، وسجلات الأفكار والتجارب وخطط العمل هي أدوات الحديقة التي تمكنك من قص الأعشاب (الأفكار التلقائية السلبية) من أطرافها لكي تنمو الأزهار. هذه الأدوات تصبح مفيدة لك طوال حياتك من خلال الممارسة، عندما تكتشف أعشابًا جديدة، ستعرف كيف تستخدم هذه الأدوات بفعالية للتكيف مع الأمور. ولكن ماذا لو وجدت أن هناك أعشابًا أكثر من الأزهار، أو أنه كلما تخلصت من بعض الأعشاب، نبتت غيرها؟ هنا يأتي دور التعامل مع جذور المشكلة، أي المعتقدات الأساسية (غرينبرغر وباديسكي، 2001، ص. 119).
هناك ثلاثة مستويات للقناعات:
- الأفكار التلقائية: هي الجزء المرئي فوق الأرض من الأفكار، يسهل الوصول إليها وتمييزها.
- الافتراضات: أعمق من الأفكار التلقائية.
- الأفكار الأساسية (المعتقدات الراسخة): هي الجذور العميقة تحت السطح، وتعد الأعمق والأكثر تأثيرًا.
ليس بالضرورة أن تكون الضوابط والقناعات التي يكونها الطفل صحيحة، على سبيل المثال قد يعتقد الطفل الصغير “كل الصبيان والرجال من كل الأعمار لا يبكون”، لأنه لم يمتلك بعد القدرة العقلية على التفكير بطرق أكثر مرونة، وتأخذ الضوابط عادة عند الطفل قيمة الأمور المطلقة، فقد تعتقد طفلة في الثالثة من عمرها “إنه من السيئ أن تضرب أحدًا”، وقد تغضب من أمها لأنها ضربت أخاها على ظهره عندما كاد يختنق بلقمة الطعام في فمه بينما يستطيع الطفل الأكبر أن يرى الفرق بين الضرب للأذى والضرب للمساعدة. (غرينبرغر وباديسكي، 2001، ص. 121)
إننا نكتسب مع نمونا قواعد وقناعات أكثر مرونة في معظم جوانب حياتنا، فنتعلم مثلًا أن نقترب من الكلب الذي يحرك ذيله لاعبًا، بينما نتجنب الكلب الذي يكون في حالة ثورة، ونتعلم أنه يمكن لنفس العمل أن يكون “سيئًا” أو “حسنًا” بحسب الظروف والوقائع، ومع ذلك فإن بعض قواعد الطفولة تبقى مطلقات حتى الكبر (غرينبرغر وباديسكي، 2001، ص. 121).
قد تبقى الأفكار والمعتقدات المطلقة ثابتة إذا نشأت في ظروف أحداث صادمة، أو إذا استمرت تجارب الحياة الأولى في إقناعنا باستمرار بصحة هذه القواعد.
كيف تتكون هذه المعتقدات؟
تتشكل المعتقدات الراسخة في مراحل الطفولة المبكرة من خلال التجارب التربوية والاجتماعية، وغالبًا ما تنتج عن التعرض للرفض، الفقد، الفشل المتكرر، أو الإهمال، هذه الخبرات لا تترسخ فقط في الذاكرة، بل تُعاد ترجمتها إلى قناعات معممة عن الذات، فالشخص الذي تعرض للإهمال العاطفي في طفولته قد يطور معتقدًا بأنه “غير محبوب” ويبدأ بتفسير سلوك الآخرين ضمن هذا الإطار، حتى وإن لم يكن ذلك صحيحًا بالضرورة (سي وود، 2020)، وقد أظهرت دراسات لاحقة أن هذه المعتقدات، رغم أنها كامنة أحيانًا، تُفعل تلقائيًا عندما يواجه الإنسان مواقف مشابهة لتلك التي شكلتها، مما يعيد إنتاج المعاناة الانفعالية نفسها (نينا ودرايدن، 2018، ص. 190).
تأثير المعتقدات الراسخة على الحياة اليومية
عندما تنشط هذه المعتقدات، تُعيد تشكيل الواقع بالنسبة للفرد وتؤثر على تفسيره للمواقف، وتؤدي إلى استجابات انفعالية وسلوكية غير متكيفة، فعلى المستوى الشخصي يؤدي الاعتقاد بأن “الناس لا يهتمون بي” إلى الانسحاب الاجتماعي أو طلب القبول بشكل مبالغ فيه، وعلى المستوى المهني قد يمنع الاعتقاد بأن “أنا غير كفء” الشخص من التقدم أو تجربة فرص جديدة خوفًا من الفشل، أما على المستوى النفسي فإن المعتقدات الراسخة ترتبط ارتباطًا وثيقًا باضطرابات مثل الاكتئاب، القلق، واضطرابات الشخصية. (بوفيه، 2019؛ مكمانوس، 2023)
إن هذه المعتقدات لا تُشاهد مباشرة، بل تظهر من خلال ردود فعل تبدو للوهلة الأولى غير منطقية أو مبالغًا فيها، ولهذا السبب لا يُكتفى بعلاج الأعراض الظاهرة، بل يجب الوصول إلى الجذر المعرفي الكامن خلفها.
كيف نتعامل مع هذه المعتقدات في العلاج؟
يهدف العلاج المعرفي السلوكي إلى تعديل هذه المعتقدات تدريجيًا من خلال استراتيجيات ممنهجة تشمل:
- التثقيف النفسي :يُشرح للمراجع كيف تؤثر معتقداته الراسخة على مشاعره وسلوكياته، وكيف أن هذه المعتقدات قابلة للفحص والتغيير. يتم التطرق لمفهوم “العدسات المعرفية” التي تشوه تفسير الواقع. (غرينبرغر وباديسكي، 2001، ص. 45)
- استخدام الأسئلة السقراطية: من خلال طرح أسئلة مثل “ما الدليل على أن هذا الاعتقاد صحيح؟” و”هل يمكن أن تكون هناك تفسيرات أخرى؟”، يُطلب من المراجع فحص معتقداته واختبار مدى واقعيتها، هذا الحوار يحرك التفكير النقدي ويقلل من يقينية الأفكار السلبية. (نينا ودرايدن، 2018، ص. 196)
- الكشف عن المعتقد من خلال السهم الهابط: يُستخدم أسلوب السهم الهابط لاكتشاف المعتقدات الكامنة، يبدأ من فكرة تلقائية مثل “سأفشل” ثم يُسأل المراجع: “وما الذي يعنيه هذا عنك؟” إلى أن يُكشف عن المعتقد الأساسي مثل “أنا غير كفء” أو “أنا لا أساوي شيئًا”. (سي وود، 2020، ص. 141)
- بناء معتقدات جديدة أكثر تكيّفًا :يتم العمل مع المريض على صياغة معتقدات بديلة أكثر واقعية، مثل: “أنا أرتكب أخطاء أحيانًا، لكني أتعلم منها” بدلًا من “أنا فاشل”، لا يُطلب من المريض أن يتبنى نقيض المعتقد مباشرة، بل يُشجّع على تبني رؤية أكثر توازنًا (Beck, 2011).
- التدعيم السلوكي: يُطلب من المريض أن يتصرف كما لو أن المعتقد الجديد صحيح، مثل أن يقبل تحديًا صغيرًا في العمل ليثبت لنفسه أنه قادر، مما يساعد على ترسيخ المعتقد الجديد من خلال التجربة. (نينا ودرايدن، 2018، ص. 207)
عرض حالة:
“س” شابة تعتمد على الآخرين في معظم شؤون حياتها، اعتقدت لفترة طويلة أنها “غير قادرة على الاعتناء بنفسها”، باستخدام أسلوب السهم الهابط، اكتشفت أن مصدر هذا الاعتقاد هو تجربة الطفولة المرتبطة بتهميش قدراتها، بدأت بخطوات صغيرة: تنظيم وقتها، وتحمل مسؤولية مهام بسيطة. ومع الوقت، تبنت معتقدًا جديدًا: “أنا أستطيع، ولو بالتدريج”.
تحديات التغيير
قد يواجه المعالج والمراجع صعوبات عند محاولة تعديل المعتقدات الجوهرية، أهمها:
- التمسك العاطفي بالمعتقد: حتى وإن كان المريض مقتنعًا منطقيًا بعدم دقته، فقد يشعر أنه “حقيقي” على المستوى العاطفي.
- تشوه الإدراك :يميل المراجع إلى تجاهل الأدلة المناقضة، وتضخيم ما يدعم المعتقد السلبي.
- الخوف من التغيير: بعض المعتقدات مرتبطة بالهوية، وتغييرها قد يشعر الشخص بالفراغ أو الضعف المؤقت.
ولهذا فإن تعديل المعتقدات يتطلب وقتًا وتحالفًا علاجيًا قويًا، مع التدرج في الانتقال من مستوى الأفكار التلقائية إلى المعتقدات الجوهرية.
المعتقدات الراسخة ليست قدرًا محتومًا، بل أنماط فكرية يمكن اكتشافها وتفكيكها وإعادة بنائها، من خلال العلاج المعرفي السلوكي، يستطيع الإنسان أن يحرر نفسه من قناعات عطلت إمكاناته، ويعيد صياغة تجربته الحياتية بصورة أكثر توازنًا وواقعية، هذا التحول، وإن كان تدريجيًا، يفتح المجال أمام الأمل، والمعنى، والنمو الداخلي الحقيقي.
المراجع
- إبراهيم، عبد الستار.(1994). العلاج النفسي السلوكي المعرفي الحديث: أساليب وميادين تطبيق. دار الفجر.
- بوفيه، سيريل.(2019). مدخل إلى العلاجات السلوكية المعرفية (بوزيان فرحات، مترجم). دار المجدد.
- بيك، جوديث.(2007) . العلاج المعرفي: الأسس والأبعاد (طلعت مطر، مترجم). المركز القومي للترجمة.
- سي وود، جيفري.(2020). العلاج المعرفي السلوكي لاضطرابات الشخصية (عبد الجواد خليفة أبو زيد، مترجم). مكتبة الأنجلو المصرية.
- مكمانوس، فريدا.(2023). العلاج السلوكي المعرفي: مقدمة قصيرة جدًا (سارة طه علام، مترجم). مؤسسة هنداوي.
- نينا، مايكل، ودرايدن، ويندي.(2018). العلاج المعرفي السلوكي: 100 نقطة أساسية وتكنيك (عبد الجواد خليفة أبو زيد، مترجم). مكتبة الأنجلو المصرية.
- غرينبرغر، دينين، وباديسكي، كريستين.(2001). العقل فوق العاطفة (مأمون المبيض، مترجم). المكتب الإسلامي.
Beck, J. (2011). Cognitive Behavior Therapy: Basics and Beyond. The Guilford Press.