ملامح الفقدان الغامض في شعر المهجر (أمثلة من شعر المهجر لبعض مسائل الفقدان الغامض)
يمرّ الإنسان في حياته بمحطات فقدان، والفقدان قد يكون واضحًا أو غامضًا؛ فالفقدان الواضح كموت شخص عزيز ودفنه، وفي هذه الحال هناك عادات وتقاليد متعارف عليها لمساندة ذوي الفقيد (المتوفَّى) وتقديم الدعم الاجتماعي لهم، أمّا الفقدان الغامض فيشير إلى الفقدان غير المحسوم؛ فالمفقود لا يمكن الجزم بأنّه ميت، قد يغيب جسديًا ويبقى حاضرًا نفسيًا، أو قد يغيب نفسيًا ويبقى بجسده فقط، وفي مثل هذا الوضع قد تغيب المساندة الاجتماعية، وقد يندُر الدعم الاجتماعي، وهذا ما يجعل الفقدان الغامض مؤلمًا.
الفقدان الغامض (Ambiguous loss) هو خسارة غير محسومة، ويبقى غموضها بدون حل، ولا يوجد نهاية له لأن الغموض مستمر، وهناك نوعان من الفقدان الغامض؛ الأول الفقدان الجسدي: غياب شخص محبوب جسديًا ولكنه يظل حاضرًا نفسيًا لعدم وجود تأكيد على مكان وجوده وحالته إن كان ميتًا أو حيًّا، ويستمر الأمل في عودة الشخص المفقود متزامنًا مع الشعور بالشك في هذا السياق، النوع الثاني للفقدان الغامض هو الفقدان النفسي: وجود الشخص جسديًا مع خسارته نفسيًا لفقده الذاكرة، أو ضعف الإدراك نتيجة الخرف الناتج عن مرض ألزهايمر أو غيره من الأمراض أو الإصابات التي تسبب الخرف، وهي أكثر من خمسين نوعًا. (Yeats & Boss, 2014, p.63-64)
وتشير بوس (Boss, 2018) إلى أن الفقدان الغامض يعدّ أكثر أنواع الفقدان إرهاقًا؛ لعدم وجود دليل على النهاية. (p.3)
افتتح عز الدين إسماعيل (د.ت) كتابه التفسير النفسي للأدب بقوله: العلاقة بين الأدب والنفس لا تحتاج إلى إثبات؛ لأنه ليس هناك من ينكرها، إن النفس تصنع الأدب، وكذلك يصنع الأدب النفس، النفس تجمع أطراف الحياة لكي تصنع منها الأدب، والأدب يرتاد حقائق الحياة لكي يضيء جوانب النفس، والنفس التي تتلقى الحياة لتصنع الأدب هي النفس التي تتلقى الأدب لتصنع الحياة، إنها دائرة لا يفترق طرفاها إلّا لكي يلتقيا، وهما حين يلتقيان يضعان حول الحياة إطاراً فيصنعان لها بذلك معنى، والإنسان لا يعرف نفسه إلا حين يعرف للحياة معنى. (ص.5)
هاجرت جماعات من العرب، وبخاصة من سورية ولبنان، في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، إلى العالم الجديد، وأقاموا في كندا والولايات المتحدة وفي دول أمريكا الجنوبية، ومن بينها البرازيل والأرجنتين وشيلي وفنزويلا، ونقلوا اللغة العربية والأدب العربي إلى تلك المهاجر البعيدة، فأنشأ أولئك المهاجرون في تلك الديار النائية أدبًا يعبّرون به عن مشاعرهم وعواطفهم، ويتحدثون فيه عن غربتهم وحنينهم إلى أوطانهم، ويصفون فيه البلاد التي أقاموا فيها، ومظاهر الحضارة السائدة في حياة الناس هناك، كما يصفون فيه حياتهم وما تعرضوا له من عناء وشقاء وتجارب مريرة مثيرة، وكان أدبهم هذا هو الأدب المهجري، الذي أصبح مدرسة أدبية كبرى، بين مدارس الأدب الحديث ومذاهبه، وعُني به الأدباء والنُقاد، وكتب حوله وحول أعلامه في النثر والقصة والمسرحية والشعر الكثير من البحوث والدراسات. (خفاجي، 1973، ص.8)
هجرة العربي إلى أمريكا كانت هجرة العمر التي أحرقوا فيها مراكب العودة، والفراق الذي لا يرجى بعده لقاء بالأهل أو الوطن، وارتحال كان ضرورة لا مهرب منها في ظروف خاصة، لا يمكن تشبيهه بالرحلة في سبيل العلم مهما تعددت سنيّها، ولا بالرحلة السياحية قصيرة الأمد المحددة الزمن ذهابًا وقفولًا، ولا برحلة النفي والتشريد السياسي المصحوبة دائمًا بآمال العودة تعلقًا بتغير الظروف، ولا بغيرها من الدواعي التي من أجلها يرتحل الإنسان، علاوة على تجرّدهم من كل عامل قوة إلا روح المغامرة ووفرة العزم. (محمد، د.ت، ص.544)
اهتمت بيريز (Perez & Arnold-Berkovits, 2019) بنوع مهم من الفقدان الغامض، وهو الفقدان الغامض للوطن، ودرست درجة ارتباط المهاجرين بوطنهم الأمّ.
منهجي في هذه المقالة أنني أستعرض شيئًا مما نظَمَه شعراء المهجر، الذين هاجروا من بلادهم، وأتلمّس ملامح الفقدان الغامض وآثاره فيه، ثم أعقّب موضحًا ما يتراءى لي من ملامحه.
يصف الشاعر زكي قنصل حال أمه مع بُعده وغربته فيقول على لسانها:
جَدَّدْتَ بالتَّعْليل علاَّتي
وأثَرْتَ بالتَّسْويف لَوْعاتي
كَمْ ذا تُواعدني ولا أمَلٌ
وأظَلُّ كاتِمةً شِكاياتي
أنسيت خَلْف خُطاك أدْعِيتي
ومَحَوْتَ مِنْ عَيْنَيْك قُبلاتي؟
خَلَّفْتَني لليأسِ يَنْهَشُني
بالمخلَبِ المُتَضَوِّرِ العاتي
وَترَكْتَني في قَلْبِ عاصفةٍ
هَوْجاءَ أخْبِطُ في المتاهاتِ
الليلُ يَطْويني ويَنْشُرني
وأنا أدافِعُه بزَفراتي
أسْقيه دَمْعاتي وأُطْعِمُه
هذي البقايا مِنْ بَقيّاتي
ماذا أقولُ لِمَنْ يُسائِلُني
عمَّا يَصُدُّكَ عَنْ مُوافاتي؟
لا أنْتَ حَيٌ أرتجيكَ ولا
مَيتٌ فأنْفِضُ منكَ راحاتي
عَبَثاً أُعلِّلُ مُهْجَتي بِغَدٍ
ليس الغَدُ المَرْجُوّ بالآتي
ما حاجتي للنورِ في بَصَري
إنْ لم تَكُنْ عَيْناكَ مِرآتي؟
يصوّر الشاعر في الأبيات السابقة عِظَم اللوعة التي تعانيها الأم في ظل الفقدان الغامض للابن، ويتضح في قوله (لا أنْتَ حَيٌ أرتجيكَ ولا مَيتٌ فأنْفِضُ منكَ راحاتي) الفقدان غير المحسوم، والغموض المستمر بدون حل.
وتتجلّى آثار الفقدان الغامض في أبيات للشاعر نسيب عريضة في قصيدته المهاجر:
أنا المهاجر ذو نفْسَــــــــــــين واحدة تســـــــير سـيري وأخرى رهن أوطاني
أنا المهاجر لا أنســـــــى الوداع وما جـرى من الـدمـع في أجــــفان غــــزلان
ولوعة في حـشا الأحباب ما بردت عــللتها بلقاء رهـن أزمــــــــــــــــــــــــان
إن أنكرونا فما والله ننكــــــــــــــرهـم وإن جفوا لا نقابلهم بنســـــــــــيان
أنا الذي إن تناســى الناس قومهم هيهات ينسى وما الكفران من شـــــاني
يصف الشاعر حاله في الأبيات السابقة؛ فيشير إلى أنه بنَفْسَين، نفْس معه وأخرى في وطنه، ويذكر أن لوعة أحبابه لم تبرد ويعلّلها باللقاء، وهنا تتجلّى آثار الفقدان الغامض بوضوح، حيث اللوعة المجمّدة، والحنين للوطن ومَن فيه من الأحباب، واللايقين المتعلق بالعودة واللقاء.
وتبدو الحيرة في أبيات للشاعر إيليا أبو ماضي إذ يعبّر عنها بقوله:
جعت والخبز وفيرٌ في وطابي والســـــــــــــــنا حولي وروحي في ضباب
وشربت الماء عذبًا ســـــــــــائغًا وكأني لم أذق غير ســــــــــــــــــراب
حيرة ليس لها مثل ســـــوى حــيــرة الــزورق في طـــاغــي الــعــبـاب
ليــــــس بي داء ولكني امرؤ لســـــــــت في أرضي ولا بين صــــحابي
مـرّت الأيـــــــــام تتلو بعضها للورى ضـحكى ولــي وحـــــدي اكتئابي
كلما اســـــتولدت نفسي أملاً مــدّت الــدنــيــا له كــف اغـــتــصــــاب
يصف أبو ماضي حاله في الأبيات السابقة وصفًا دقيقًا؛ فيشير إلى أنه جائع رغم وفرة الخبز لديه، وروحه في ضباب، ويشرب الماء لكن كأنه لم يشرب، وهو يمر بحيرة لا يشبهها غير حيرة الزورق في الموْج المرتفع المضطرب، ومن ذلك نجد معالم الفقدان الغامض واضحة؛ فالحيرة ألمّت به لبعده عن وطنه وأحبابه بدون نهاية لذلك البعد وتلك الغربة.
يشير في البيت الرابع إلى أنه لا داء به، ولعلّنا نجد في هذا إشارة إلى عدم الاعتراف بالفقدان كونه غامضًا، ففي الوفاة هناك مراسم ومساندة اجتماعية؛ لأن الوفاة تنتمي إلى الفقدان الواضح، أمّا هنا، في ظلّ الغموض، فلا تبدو المشكلة مشكلةً لدى الآخرين، ومن ثَمّ لا يرونها داءً يستحق الدعم والمساندة.
وفي البيت الخامس مَعْلَم من أوضح معالم الفقدان الغامض؛ إذ يقول الشاعر عن الأيام (للورى ضـحكى ولي وحدي اكتئابي)؛ لأن من يعاني الفقدان الغامض يكون أكثر عُرضة للاكتئاب، ويتجلّى في البيت السادس مَعْلَم آخر، إنه اليأس الذي يؤكده بقوله (كلما اســتولدت نفسي أملاً مدّت الدنـيا له كــف اغـتصاب)، ولعلّ هذا ينمّ عن شوقه وتلهُّفه للوصول إلى إغلاق الخبرة.
وثمّة ما يشير إلى الفقدان الغامض في قصيدة أخرى يقول فيها:
طلع الصبح ولكن لم نجد إلّا ضــبابا
ألَهُمْ يـا بحر يـومًـا رجـعـة أم لا مآبا؟
يشير الضباب إلى الغموض المتعِب، فلا وضوح ولا نهاية تلوح في الأفق، ويتساءل الشاعر عن العودة بقوله (ألَهُمْ يـا بـحـر يـومًـا رجـعـة أم لا مـآبـا)، وهناك يبدو الشك واضحًا، وتظهر حيرة الأسئلة التي لا جواب لها، والتي تشوبها مشاعر متناقضة، مع التلهُّف للانتقال من اللايقين إلى اليقين.
ويقول الشاعر رشيد الخوري (القروي) في قصيدته عند الرحيل:
نصحتك يا نفـــــــــــــس لا تطمعي وقلت حذار فلم تســــــــمعي
فإن كنت تســـــــتسهلين الوداع كـمـا تـدّعـــــيـن إذًا ودّعـــــــي
خرجت أجرّك جرّ الكســـــــــــــــــيح تئِنين في صــــــدري الموجع
ولــمـا غـــدونـا بـنـصــف الـطـريـق رجــــعتِ وليتك لم ترجعــــي
لئن كنت يا نفــــــس مع من أحـب فلمَ ذا اشــــتياقي ولمَ أدمعي
أظنك تائـهـــة فــــــــــــي الـــبــحـار فلا أنتِ معهم ولسـتِ معـي
يشير الشاعر، في الأبيات السابقة، إلى أنّ نفسه عادت لمّا غدا في نصف الطريق، ولم تهاجر معه، ويتحسّر لعودتها، ويتساءل بحيرة وشك (لئن كنت يا نفس مع من أحـب فلمَ ذا اشتياقي ولمَ أدمعــي)، ثم يقول (أظنك تائهة في البحار فلا أنتِ معهم ولستِ معي)، وهنا تتضح المشاعر المتناقضة التي تعتري الفرد في حال الفقدان الغامض.
ويبدو شعوره بفقد الوطن فيما قاله في قصيدة أخرى:
ناءٍ عن الأوطان يفصلُني
عمَّن أُحبُّ البرُّ والبحر
في وحشةٍ لا شيءَ يؤنسُها
إلاَّ أنا والعُودُ والشعر
حَولي أَعاجمُ يرطُنُون فما
لِلضَّاد عند لِسانهم قَدْر
لو عاش بينهُمُ ابنُ ساعِدةٍ
لَقضى ولم يُسمَعْ له ذِكْر
ناسٌ، ولكنْ لا أنيسَ بهم
ومدينةٌ، لكنَّها قفر
ويصف الشاعر حاله، في الأبيات السابقة، ويشير إلى أنه بعيد عن وطنه، تفصله مسافات شاسعة، ويشعر بالوحشة إذ لا أنيس من البشر، وهذا ينمّ عن تعلّقه بوطنه ولوعته، وشعوره بفقد الوطن مع عدم الرضا عن مكان وجوده الآن.
ويصف الشاعر شفيق معلوف حال أمّه عند هجرته فيقول:
وغادر عند صخر الشط أمًّا تذوب إليه تَحنانًا وشــــــــوقا
فـما نـضبت لـمقـلـتها دمــوع كأن لعينها في البحر عرقا
يصف الشاعر هنا حال الأم حِيال هجرة ابنها إلى أجل غير مسمى، فهي تذوب إليه بشوق وحنان شديد، وفي هذا السياق أذكرُ المثل الشعبي الشائع (يبقى القلب ذائبًا ما دام الغائب غائبًا)، وذوبان الأم أو ذوبان القلب من علامات اللوعة المعلّقة التي يمر بها الفرد في حال الفقدان الغامض، حيث الوجود النفسي للفرد مع الغياب الجسدي.
خاتمة:
الفقدان الغامض حالة نراها اليوم، ولا شك أنها كانت في الماضي، وإنْ كان الاهتمام بها حديثًا من حيث إجراء البحوث العلمية المتعلقة بها، فهذا لا يعني أنها غير موجودة فيما سبق، ولعلّ الأدب العربي من أبرز المظانّ التي يمكن أن نرى الفقدان الغامض جليًا فيها؛ فالشعر -كما قيل- سكبٌ للانفعالات على الورق، وتنعكس من خلاله تجارب الشعراء.
يتجلّى الفقدان الغامض في شعر المهجر، وتبدو معالمه بارزة في كلماتهم ونظْمهم وتعبيرهم عن انفعالاتهم، وهذا ما يتبيّن لي بعد استعراض نزْر من شعرهم فيما سبق، وأقترح إجراء بحوث في هذا المجال لأن البحث في أدب المهجر يأتي بالمزيد.
المراجع:
-
- إسماعيل، عز الدين. (د.ت). التفسير النفسي للأدب (ط.4). مكتبة غريب.
-
- خفاجي، محمد عبد المنعم. (1973). قصة الأدب المهجري(ط.2). دار الكتاب اللبناني.
-
- محمد، نظمي عبد البديع. (د.ت). أدب المهجر بين أصالة الشرق وفكر الغرب. دار الفكر العربي.
Boss, Pauline, & Yeats, Janet R. (2014). Ambiguous loss: a complicated type of grief when loved ones disappear. Bereavement Care, 33(2), 63-69. https://doi.org/10.1080/02682621.2014.933573 Boss, Pauline. (2018). Families of the missing: Psychosocial effects and therapeutic approaches. International Review of the Red Cross, 99(905), 1-13. https://doi.org/10.1017/S1816383118000140 Perez, Rose M., & Arnold-Berkovits, Ilona. (2019). Perez Ambiguous Loss of Homeland Scale: Measuring Immigrants’ Connection to Their Country of Origin. Hispanic Journal of Behavioral Sciences, 41(1), 3–28. https://doi.org/10.1177/0739986318824 |