خمسة وعشرون عامًا من علاج الصدمات: ما الذي تعلمناه؟ (مقالة مترجمة)

 

عنوان المقالة الأصلية: “Putting the Pieces Together, 25 Years of Learning Trauma Treatment”

المؤلفة: Janina Fisher, Ph.D – Clinical Director, Khiron House Clinics UK; Assistant Educational Director, Sensorimotor Psychotherapy Institute.

المجلة:  Psychotherapy Networker Magazine. May/June 2014.  

[1]في عام 1989، عندما بدأت تدريبي السريري كمختصة نفسية متدربة، عملت مع متعالجين متنوعين، من أساتذة جامعين إلى أفراد أسر من الطبقة العاملة إلى المشردين، أو المصابين بمرض عقلي مزمن، وقد كان معظمهم يعانون من آثار تجربة صدمية غير معترف بها.

 في عام 1989، كان استخدام كلمة (الصدمة) نادرًا فيما عدا توصيف خبرات المحاربين السابقين أو ضحايا العنف الجنسي.  لم يكن هناك ذكر للصدمة كمسبب للاضطرابات النفسية في الصياغات التشخيصية.  في ذلك الحين كان قد مر من الأعوام خمس عشرة عاماً فقط منذ افتتاح أول مركز لمعالجة لأزمات الناجمة عن الاغتصاب في الولايات المتحدة، وكان قد مر تسعة أعوام فقط على اعتماد اضطراب الشدة ما بعد الصدمة (PTSD) تشخيصًا رسميًا كأحد الاضطرابات النفسية في الدليل التشخيصي DSM، وكانت “الصدمة” لا تزال تُعرّف على أنها “حدث خارج النطاق الطبيعي لخبرة الإنسان” (الجمعية الأمريكية للطب النفسي، 1980).  لم يكن المتخصصون في الصحة النفسية قد تدربوا بعد على أن يسألوا كل متعالجيهم عما إذا كانوا قد مروا سابقاً بخبرة إساءة معاملة أو بصدمات نفسية. كان الاعتقاد سائداً بأن تذكر الماضي هو المفتاح لحل الأحداث الصادمة، وكان دور المعالج أن يظل محايدًا بينما كان المريض يترك ليقوم من خلال التداعي الحر ليصل إلى التفسير “الصحيح” والإجابة عن السؤال المهم دائمًا “كيف أو ماذا شعرت في ذلك الوقت؟”

 ولكن في أوائل التسعينيات، ظهر كتاب (الشجاعة للشفاء The Courage to Heal) وهو كتاب المساعدة الذاتية المتأثر بحركة المدافعات عن حقوق النساء، من تأليف إيلين باس ولورا ديفيس (Bass and Davis, 1988) والذي كان من أكثر الكتب مبيعًا وجلبًا للاهتمام العام بالموضوع المحرم سابقًا المتمثل في الاعتداء الجنسي على الأطفال. 

قدم الكتاب أسلوبًا علاجياً دراماتيكيًا، مناقضاً غالباً وبعيدًا كل البعد عن الحياد الصارم الذي تفرضه المناهج المستنيرة بالتحليل النفسي.  وحسب وصف باس وديفيز، كانت المهمة المركزية للعمل في مجال الصدمات هي استرجاع الذاكرة، وتشكيل قصة الصدمة، مهما كانت قاتمة، والمواجهة مع المعتدي.  وقد أشاد معظم المعالجين بالوضوح الذي أعطاه كاتبا “الشجاعة للشفاء” إلى قضية الاعتداء الجنسي المهملة منذ فترة طويلة ونصائحهما للناجين بأن يرفعوا صوتهم ويشدوا من عزيمتهم، لكن كانت هنالك بالمقابل غالباً آثار أو عواقب خطيرة للمكونات الرئيسية لطريقتهم: استدعاء الأحداث الصادمة واحتجاز الجناة أو المسيئين المهمِلين وإخضاعهم للمساءلة.  أصبح المرضى غارقين في طوفان من الذكريات التي ظهرت، أو بدأوا في الشك في مصداقية ما يتذكرونه، خاصة عندما لم يتمكنوا من الوصول إلى تسلسل زمني واضح للذكريات.  لم يتوقف الأمر عند إصابتهم بمشاعر أسوأ بعد ذلك الإفصاح، بل ازدادت بينهم كذلك حالات إيذاء النفس والميول الانتحارية وتعاطي الكحول أو المواد الإدمانية للسيطرة على العواطف التي شعروا بها على أنها لا تطاق (Hetrick, Robinson, Spittal & Carter. 2016; Min, Farkas, Minnes, & Singer, 2007).

 الأسوأ من ذلك، أن المواجهات العائلية انتهت مرارًا وتكرارًا بإصابة الضحية بصدمة أخرى. رفض أفراد الأسرة (دفاعيًا أو في حالة إنكار) تصديق ما تم الكشف عنه واتهموا الضحايا بالخيانة والظلم بقولهم: “أنتم تدمرون هذه العائلة – أي نوع من الابنة / الابن سيقول مثل هذا الشيء؟!”).  وبدلاً من تلقي الدعم الذي طال انتظاره، غالبًا ما تم رفض هؤلاء الأفراد أو طردهم من العائلة أو إجبارهم على التراجع من أجل إعادة قبولهم كأفراد في الأسرة من جديد (هيرمان، 2000؛ هيرمان، 1992). بحلول أواخر الثمانينيات، أصبحت جوديث هيرمان الطبيبة النفسية الشابة المهتمة بمعالجة العنف ضد المرأة مقتنعة بوجود شيء خاطئ للغاية ومزعزع للاستقرار بشأن تقنيات المواجهة التي أوصى بها باس وديفيز.  بالاعتماد على ملاحظاتها للنساء المصابات بصدمات نفسية اللائي ازدادت أعراضهن أكثر وليس أقل عند الضغط عليهن للإفصاح والمواجهة، توصلت إلى قناعة بأن العلاج الجيد للصدمات يتطلب نهجاً أبطأ وأكثر أمانًا، نهجاً يؤخر التركيز على الذكريات المؤلمة حتى تشعر المريضات بالأمان في حياتهن اليومية وحتى يصير لديهن تنظيم فعال وناجح لانفعالاتهن، وتحملاً للضغط الناجم عن استعادة ذكريات هذه الحلقات المظلمة في تاريخهن. كانت هيرمان ناشطًة نسوية سياسية مقتنعة بأن الضحايا بحاجة إلى الشعور بالتمكين: في العلاقة مع أقرانهن وشركائهن وكذلك في علاقتهن بذكرياتهن. وظهر تماماً أن هذا الشعور بارتباك غامر بنتيجة عملية التذكر هو تماماً عكس ما يلزم لحل الصدمة. واليوم صار فهم تجنب “إعادة صدمة” المصابين راسخاً جدًا ويستخدم بشكل روتيني من قبل المختصين في الصحة النفسية حول العالم.  أصبحت أولوية “استعادة الاستقرار أولاً” هي المعيار السائد في علاج الصدمات.

التثقيف النفسي كتدخل علاجي

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، لم يكن ينظر بعد إلى (تثقيف المرضى حول أعراضهم وتشخيصاتهم) على أنه نشاط علاجي.  أكثر الأساليب شيوعًا في الصحة النفسية كان العلاج النفسي الديناميكي والتحليل النفسي، بينما كانت الأشكال الأخرى من العلاج: المعرفي السلوكي، والعلاج الإنساني، والجشطالتي والمتمركز على المتعالج، وكذلك العلاج الوجودي اتجاهات نامية (Blatner, 2012).

 لكن هيرمان (1992) أشارت إلى أن اختلال توازن القوى في العلاقة بين المعالج والمتعالج قد تفاقم عندما احتفظ المعالجون لأنفسهم بالمعارف العلمية المتزايدة حول آثار التجربة الصادمة، ومسار التعافي، والعواقب المحتملة للمراوحة بين المشاعر الطاغية وبين غياب المشاعر والشعور بالخدر والانفصال. 

رأت هيرمان أن على المعالجين أن يصبحوا معلمين، يوفرون لمتعالجيهم المعلومات لفهم المعنى وراء الأعراض، وليروا ردود أفعالهم الشديدة على أنها “طبيعية”، على أنها ردود التكيف التي تساعدهم للبقاء على قيد الحياة، في بيئة طفولة خطيرة ومتعسفة.  أما مواجهة الأسرة في حال كان لها محل، فيجب أن تنتظر الوقت الذي يصبح المتعالج فيه غير معتمد أو بحاجة إلى أي شيء من أفراد الأسرة.

ولقد نصحت هيرمان، أنه يمكن سرد قصة الإساءة فقط عندما يكون لدى المتعالج القدرة على أن يحتمل المشاعر الغامرة التي من المحتمل أن تثيرها.

 ولعل خير مثال يرينا مدى ثورية فكرة (الاستقرار واستعادة التوازن) في أوائل التسعينيات هو ما دار خلال لقائي مع امرأة شابة تدعى أريانا، كان لها تاريخ طويل من الاستغلال الجنسي في مرحلة الطفولة، ورغم ذلك فإنها لم تتمكن من الانخراط بنجاح في العمل على صدماتها بسبب عدم قدرتها على تحمل العلاج لأكثر من بضعة أشهر.

في لقائنا الأول، بدت لي كمتعالجة مثالية، مشرقة، ثاقبة، واضحة، وفوق هذا مختصة في مجال تقديم الخدمات الإنسانية. كنت أشعر بالفضول بشأن هذا النمط من الفارين من العلاج بعد العلاج، الذين يغيرون معالجاً تلو الآخر بدل العودة إلى أي معالج سابق.  وسألتها عن ذلك:

“ما الذي كان يشعرك في كل علاج أنه قد حان الوقت لتغادري؟”

 ضحكت قائلة: “حسنًا، هذا سهل”.  “حين أراد المعالجون مني أن أبكي، أو أرادوا أن يتوغلوا داخلي عميقاً لحد القتل! “

 سألتها بدهشة “القتل؟”؟؟؟

 “القتل عندي هو: عندما يقولون،” الأسبوع المقبل، يمكننا البدء في معالجة الصدمة”.

في تلك الأيام، كان معظم معالجي الصدمات يرغبون في أن يبكي المريض مثل أريانا كدليل على أنها كانت “على اتصال” بمشاعرها، وبالطبع معظم المعالجين أرادوا أن يساعدوها في سرد ​​قصتها.  حتى بين الموظفين العاملين في عيادة الصدمات مع هيرمان، كان الرأي السائد أن تحقيق الاستقرار كان مجرد شرط مسبق للعمل الحقيقي على الصدمة. كان العمل على حالة آريانا تذكيراً بأن العمل على الصدمات يتطلب علاقة علاجية تمنح المريض بعض الشعور بالسيطرة على عملية التذكر وعلى العواطف الغامرة المرتبطة بالماضي، علاقة لا يكون المعالج فيها حساسًا فقط للألم الذي الحقه الجاني بالمتعالج في الماضي، ولكن أيضاً معالج حساس للألم الناتج عن العلاج نفسه. وبدا لي حينها جلياً أن استعادة التوازن لم يكن مجرد قناع واق نستخدمه أثناء علاج الصدمة وإنما الاستقرار أعاد للمرضى حياتهم، وقدم لهم حاضراً مليئاً بالمعنى كبديل لإحياء الماضي، وعلمهم كيفية تحمل عواطفهم وعلاقاتهم. بدأت أتساءل عن الافتراض القائل بأنني كمعالج نفسي تحليلي في علاج الصدمات: لماذا هذه الأولوية المعطاة للعمل على محتويات الذاكرة؟ ألا ينبغي أن يتحكم المصابون بصدمات نفسية في عملية التذكر؟ أليس لهم الحق في أن يتذكروا أكثر أو أقل؟  ولماذا كانت القدرة على التكيف وبناء حياة جديدة مهمة أقل تبجيلاً من العمل على الذاكرة؟ كان العمل من منتصف الثمانينات إلى منتصف التسعينيات بداية واعدة في مجال لا يزال جديدًا للغاية، لكنه سيستمر في المرحلة التالية، في ثورة علم الأعصاب، لتقديم تفسير لماذا لا يستطيع التذكر هضم مخلفات الصدمة.

ثورة علم الأعصاب

 كان كل واحد من الرواد في مجال الصدمات تواقاً بشغف لجلب الأدلة التي تشير إلى آثار إساءة المعاملة وضرورة علاجها، وكان لكل منهم طريقه الخاص في ذلك. بالنسبة لجوديث هيرمان، كان الإلهام هو الحركة النسائية، حركة الناجيات من الاغتصاب، والاعتقاد بأن النساء يمكنهن أن يشفين بعضهن بعضاً بشكل أفضل من خلال مشاركة قصصهن في مجموعة من الأقران.  بالنسبة إلى دير كولك Bessel van der Kolk، فإن رعايته لقدامى المحاربين الأمريكان في فيتنام في مستشفى إدارة المحاربين القدامى، قد أثارت لديه فضولًا شديدًا: ما آلية التأثير القابعة في صميم اضطراب ما بعد الصدمة لديهم؟ ما الذي يجعل الماضي يعيش على هذا النحو بشكل متقطع الأوصال ومكثف في الوقت الحاضر؟

 في عام 1996 عندما انضممت إلى عيادته كمشرفة ومدربة، كان دير كولك يثير الجدل لسنوات حول الذاكرة الصدمية لم تشمل الصور والسرد فقط، ولكن أيضًا العواطف الاقتحامية والظواهر الحسية والاستثارة اللاإرادية والأفعال الجسدية وردود الفعل. وفيما بين الرواد الأوائل في علاج الصدمات، كان هذا مبتكرًا وفكرة غريبة إلى حد ما – ولكنها مميزة لرجل كان بالفعل بمثابة الإلماعة المضيئة في هذا المجال، والذي نُشر كتابه الأول عن الصدمة في عام 1987. كان دير كولك مدفوعًا كعالم لفهم الأعراض الغامضة والمتناقضة في كثير من الأحيان لاضطراب ما بعد الصدمة التي لاحظها لدى قدامى المحاربين والطريقة التي كان الماضي أقوى عاطفياً من الحاضر لهؤلاء الرجال في واقع حياتهم الحالية. كطبيب كان مستعدًا لكسر التقليد إذا لزم الأمر لإيجاد طرق تعالج الصدمة وحيثياتها.  وكإنسان مؤمن بعمق، كان مهتماً للغاية بزيادة وعي مختصي الصحة النفسية حول ارتفاع معدل حدوث التجارب الصادمة بشكل مثير للقلق خاصة بين الأطفال.  وكعضو في فريقه الطبي، كان لي مقعد في الصف الأمامي لأرى عن كثب كيف ان عقله الفضولي دائماً وتصميمه الدؤوب يقودانه إلى طرق العلاج المبتكرة التي كانت تمضي (وراء القصة الصدمية)، إلى معرفة طريقة تثبيت الخبرات الصادمة في الاستجابات الجسدية القوية للغاية، وفي الذاكرة العاطفية والعضلية، وفي الاستجابات وردود الفعل المعتادة.  كان يبدو ابتهاجه في تحدي الطرق المألوفة في التفكير في عالم مختصي الصحة النفسية، مسيئاً للبعض، وملهما للكثيرين للتساؤل وإثارة الفضول بشأن فهم إرث الصدمة باعتباره مختلفًا في طبيعته عن تأثير الخبرات المؤلمة وغير الصدمية.  ففي عام 1994 حين صدرت مقالته The body keeps the score في المجلة الأمريكية للطب النفسي، لتحمل فكرة رائدة وغير مرحب بها أن “الجسم يحتفظ بالنتيجة”، بدلاً من “القصة تحافظ على النتيجة”.

 والأسوأ من ذلك، أن الوسط المهني لم يكن لديه طريقة في منتصف التسعينيات لمعالجة الآثار الجسدية للصدمة، وهكذا تسببت فكرته في إزعاج هائل للعياديين الذين اعتادوا على استخدام الكلمات. لكن ظهور تقنية مسح الدماغ في أواخر التسعينيات سمح له أخيرًا بإجراء ذلك البحث العلمي الذي من شأنه في النهاية تغيير طبيعة علاج الصدمات. 

 كان هذا الباحث الرائد (دير كولك) يستخدم قوة شخصيته في محاولة لتحفيز الوسط العلمي للتفكير خارج الحدود التقليدية، وكان على وشك العثور على ما يدعم المصداقية العلمية لأفكاره الجديدة.  في بحثه الرائد الأول طلب من عشرة أشخاص متطوعين القيام بتذكر حدث صادم أثناء فحص فحص الدماغ بتقنية التصوير المقطعي بالبث البوزيتروني PET(Van der Kolk & Fisler، 1995).  عندما بدأوا في تذكر هذه الأحداث، كشفت هذه الفحوصات عن ظاهرة مفاجئة: المناطق القشرية المرتبطة بالذاكرة السردية والتعبير اللفظي بدت خاملة أو مكبوتة، وبدلاً من ذلك كان هناك زيادة تنشيط اللوزة اليمنى Amygdala، وهي بنية صغيرة في النظام الحوفي (The Limbic System) يُعتقد أنها مرتبطة بتخزين الذكريات العاطفية بدون كلمات. في بداية الفحص كان المتطوعون قادرين على التذكر والتعبير اللفظي بشكل طبيعي، ولكن ما أن بدأ سرد الأحداث الصادمة على ألسنتهم، حتى اختفت تماماً قدرتهم على التعبير اللفظي عن مشاعرهم القوية وأحاسيسهم الجسدية.  ان مناطق النصف المخي الأيسر، التي تسمح لنا بتحديد ما نشعر به والتعبير عنه بكلمات، تم إغلاقها. لا عجب أن مرضانا كانوا يواجهون مثل هذه الصعوبة في وصف تجاربهم بالكلام، حتى التجارب اليومية منها! لا عجب أنهم أصبحوا عاجزين عن الكلام، فيما هم يهرعون خارجين من غرفة المعالج، أو فيما يختبؤون متجمدين رعباً داخل خزانة الثياب، أو تحت السرير. لا عجب أنهم واجهوا صعوبة في تذكر الماضي دون أن يطغى عليهم الانفعال المفرط، ولا عجب أنهم لم يتمكنوا من معالجة هذه الذكريات.

  كان العلاج النفسي من وقت فرويد قائمًا على افتراض أن الكلمات التي تعبر عن عواطف المرء وتجارب الماضي المؤلمة ستحرر الضحايا، لكن أبحاث تصوير الدماغ (والتي تكررت كثيراً منذ ذلك الحين) تعطينا رواية مختلفة تماماً: إذا كانت الخبرات صادمة، إذا تجاوز تأثير الانفعالات قدرة تحمل المرء، فإن أجزاء الدماغ اللازمة للتمييز بين الماضي والحاضر، وخلق السرد المتسلسل زمنياً، بل وحتى معرفة أين نحن الآن، تصبح غير فعالة وغير متاحة. أصبح مفهوم “إعادة الصدمة” منطقيًا ومفهوماً الآن: إذا حدث أن استجرينا الاستجابات الصدمية عن قصد أو عن غير قصد، فإن مناطق الدماغ المسؤولة عن التعبير اللفظي عما حدث لنا أو ما شهدناه، تنخفض فعاليتها إلى حد كبير وربما إلى حد الانغلاق تماماً، والأحداث تعاد معايشتها في أحاسيس الجسم، والنبضات، والصور والهياج الانفعالي بدون كلام.  “هذا يغير كل شيء”، هذا ما دار بذهني عندما وصف دير كلوك نتائج أول دراسة تصوير دماغي، وهذا حقاً ما حصل.

 يتطلب العلاج بالكلام كلمات، وقد كان الكلام هو أداة المعالجين منذ أواخر القرن التاسع عشر.  سيواجه المعالجون الآن تحديًا جديدًا: علينا القيام بالعثور على طرائق علاج أخرى لا تعتمد على اللغة والسرد، طرائق يمكن لها أن تتعامل مع الآثار الدماغية والجسدية التي تظهر بشكل واضح في تصوير الدماغ. 

 على مر السنين، ساعد Bessel van der Kolk في تحقيق رؤية ومصداقية أكبر لمجموعة متنوعة من الأساليب الجديدة (بما في ذلك EMDR، والعلاج النفسي الحسي الحركي Sensorimotor Psychotherapy، والخبرة الجسدية Somatic Experiencing، أنظمة الأسرة الداخلية Internal Family Systems، واليوغا، والتاي تشي tai chi، والتغذية الراجعة العصبية Neurofeedback). وعلى الرغم من أن أفكار كل من هذه الطرق كانت معروفة جيدًا قبل اهتمام دير كوليك بهم، إلا أنه كان قادرًا على إيجاد تفسير من علم الأعصاب حول حاجة المتعالجين إلى هذه العلاجات، ومن خلال تعريف معالجي الصدمات بأفكارهم، توسع نطاق جمهورهم ليشمل مجتمع الصحة النفسية الأوسع.

 على الرغم من أن إزالة التحسس بحركة العين وإعادة معالجة المعلومات (EMDR) يعود تاريخها إلى عام 1987، ولكن لم يتم الترحيب به حتى ذلك الوقت من قبل رواد علاج الصدمات على الرغم من حقيقة أن د. شابيرو، المختصة بعلم النفس التجريبي، بذلت جهودًا كبيرة لبرهان نجاح العلاج والتحقق من مصداقية نهجها من خلال البحث التجريبي.  مثل فان دير كولك، كانت فرنسين شابيرو Francine Shapiro مقتنعة بأن اضطراب ما بعد الصدمة كان نتيجة لفشل الدماغ في هضم الخبرات الصادمة، أي أن اضطراب ما بعد الصدمة يكمن في جوهره في مشكلة معالجة المعلومات. واعتقدت أيضاً بأن المعلومات الصادمة لم يتم هضمها بسبب الكيمياء العصبية والاستجابات اللاإرادية التي استمرت في الحدوث استجابة للمحفزات triggers أو المثيرات المرتبطة بالصدمة. ولم يكن واضحاَ كيف ولماذا سهّل التحفيز الثنائي bilateral stimulation إعادة معالجة (هضم) الذكريات القديمة، وإنما تم التحقق من نجاحه في بحوث مضبوطة لقياس الفاعلية.

 أدت الشعبية المتزايدة لـ EMDR في أوائل القرن الحادي والعشرين إلى ثورة أخرى أيضًا. بمجرد تدريب المعالجين على الـ EMDR، أصبحوا معتادين على النهج الذي يتطلب التغيير في إطار العلاج التقليدي.  يمكن أن يتم استبدال الحوار المعتاد بين المريض والمعالج، عند الضرورة، بنهج أكثر تنظيماً للتخلص من الصدمة أو آثار التجارب المؤلمة من خلال صورة عن “الجزء الأسوأ” من هذه التجارب، والمعتقدات السلبية، والمشاعر المرتبطة بهذه الصورة وتلك المعتقدات القديمة، وما يرتبط بهذا كله من الأحاسيس الجسدية. حين ذاك، يأتي الجزء الأكثر غرابة بالنسبة للمعالجين التقليديين بالكلام، وهو أن عليهم أن يقدموا للمتعالج فيما هو يستحضر تلك الصورة شكلاً من أشكال الإثارة المتناوبة لنصفي الكرة المخية (مثل تحريك أصابع المعالج ذهابًا وإيابًا، أو الاستماع إلى نغمات الصوت بالتناوب، وما إلى ذلك).  بعد القيام بكل ذلك، بدا الأمر فجأة منطقيًا وغير مستغرب أن النقلة التالية بالنسبة إلى العديد من المعالجين المدربين على الـ EMDR لتعلم طرق أخرى تتضمن أيضًا المزيد من التدخل النشط بدلا من مجرد التواصل اللفظي. أصبح ملايين من المعالجين حول العالم بعد ذلك منفتحين على استخدام علاجات جديدة، مثل العلاج المتمركز على الجسد Body-oriented approaches، المناهج الموجهة للعلاج النفسي الحسي الحركي، أو الخبرات الجسدية، أو العلاج بالطاقة (تقنية الحرية العاطفية Emotional Freedom Technique)، أو طريقة التركيز لصاحبها يوجين جيندلين Eugene Gendlin . ما يجمع كل هذه الطرق هو أنها مختلفة تماماً عن طريقة العلاج بالكلام. كل من هذه الطرق الجديدة يزيد من مصداقية الفكرة الثورية الأساسية وهي أن مواجهة الضغوط الصدمية لا يتم من خلال (استعادة الخبرة الماضية)، بل من خلال أن تعيش خبرة مختلفة في الحاضر. وهكذا عززت هذه الأساليب الجديدة إيماني الشخصي بأن علاج الصدمات لا ينبغي أن يكون مؤلماً جداً. إنني على الرغم من الافتراض الذي احتفظ المختصون به بعناد في الماضي، بأن العمل المثمر على علاج الصدمة يتضمن إعادة إحياء الماضي المؤلم، فلم أشعر أبدًا بأن من الصحيح أن يكون العلاج مؤلماً مثل الصدمة التي ينبغي علاجها، أو أن يضطر مرضاي المصابون بصدمات نفسية إلى معاناة كلما عانوه من جديد ليكونوا على ما يرام.

كيف غيرت العلوم العصبية العلاج النفسي

بدأت فكرة أن أبحاث علم الأعصاب يمكن أن تكون وثيقة الصلة، بل ضرورية في العلاج النفسي بدت كبذرة زرعها دير كولك لإثبات فرضيته أن ردود فعل ما بعد الصدمة تستمر بسبب ما يجري في الجسم والدماغ.  وبتتابع المنشورات من نوعية ما كتبه آلان شور Allan Schore بعنوان “تنظيم الوجدان وأصل الذات Affect Regulation and the Origin of the Self في 1994، ثم جوزيف لودو Joseph LeDoux بعنوان “الدماغ العاطفي The Emotional Brain” عام 1996، ودانييل سيجل Daniel Siegel “العقل النامي The Developingg Mind في 1999، بدأ الوسط العلمي يُلهم التطورات الجديدة في مجال العلاج النفسي. تحدى كل من هؤلاء الخبراء أسبقية العقل كأساس لـ الحياة العاطفية للإنسان، وأرادوا بدل ذلك لفت الانتباه إلى كيفية تأثير الدماغ في قدرتنا على استخدم عقولنا. وأكد أصحاب هذه الأعمال بأن كلاً من الدماغ والجهاز العصبي ينضجان ببطء ويتأثران بشكل كبير وربما دائم بأنماط التعلق المبكر (المترجم: مع الأم أو من يقوم مقامها)، وبالإهمال، والصدمة. في عصر بدأ فيه علم الأعصاب في إثارة اهتمام معظم المعالجين، بقي السؤال حول ما يجب فعله بهذا الفهم الجديد حول كيفية عمل الدماغ والجهاز العصبي.  وعلى مدى السنوات العشر التالية لذلك، فإن كثيرا من جوانب عمل المعالجين النفسيين قد تحول وتطور بتأثير العلوم العصبية. وبدأت ثورة علم الأعصاب في تحويل النموذج العلاجي إلى أطروحات معروفة منذ بدايات التحليل النفسي: التي ترى في الأعراض والسلوك الذي يظهره المرضى انعكاسًا لدفاعاتهم النفسية، مما يعني أنهم لا يعون مقاصد أفعالهم وردود أفعالهم.  والآن، وبفضل رواد مجال علم الأعصاب، صرنا نفهم أن ما اعتقدنا به سابقاً من وجود الدماغ الغريزي، إنما هو استجابات دماغية وجسدية لغريزة البقاء: فالتفعيل الودي يغذي القلق والغضب؛ في حين تتسبب هيمنة الجهاز نظير الودي في الإغلاق وما نطلق عليه “السلوك العدواني السلبي”: عندما يفر المريض فجأة من مكتب المعالج في منتصف الجلسة، نفهم الآن[2] أن هذا السلوك هو استجابة هروب Flight response. بالمقابل فمن الواضح أن الاستجابات القتالية fight responses تعزز الاعتداء اللفظي والجسدي، أو العنف الموجه ضد الذات. فعندما ينخرط العملاء في إيذاء أنفسهم، فإن أعدادا متزايدة من المعالجين قد أصبحوا يفهمون الآن أفعالهم هذه على أنها غريزية أكثر من كونها مقصودة، وبأنها محاولات للضبط الذاتي أو التخفيف من التوتر، أكثر من كونها عقوبة لأحد (أو لأنفسهم) أو للفت انتباه الآخرين.

العلاج النفسي المتبصر بالعلوم العصبية

سأحكي لكم عن متعالجتي جيسي، ومحاولاتها المتكررة للانتحار، دخولها إلى المستشفى، والأحداث المأساوية المفاجئة التي مرت بها وشكلت كلها تحدياً لمهارتي وإحساسي بكفاءتي في علاج الصدمة.  في بعض الجلسات كشفت جيسي ذكريات طفولتها عن الأم المريضة عقلياً، المرعبة التي عذبتها، في الأسبوع التالي، ستبدو مرتبكة أو منزعجة بسبب إشارتي إلى تلك الأحداث، مصرة على قولها خلال الجلسات التالية “لم أقل أبداً إنني تعرضت للإيذاء”. وفيما بين الجلسات العلاجية التي كنا نجريها، راسلتني عبر البريد الإلكتروني مع مناشدات يائسة لمساعدتها، لكنها غالبًا حين كانت تأتي للعلاج تصرح بشعورها بالملل وعدم وجود أي شيء للحديث عنه.  كانت تنكر بشدة ميولها الانتحارية ثم تتصل بي بعد ساعات لتخبرني أنها أخذت جرعة كبيرة الحبوب. عندما جمعت هذه الأجزاء المتناقضة من الأدلة معًا، بدا لي أنها لا تتذكر وقائع سوء المعاملة الصادمة التي مرت بها، لأن جسدها وجهازها العصبي كانت كلها متوترة ومتحفزة لأقصى حد بمجرد أن تتواجد بين الناس. لقد أثار وجود زملاء العمل، الزبائن، الجيران، الأصدقاء والعائلة، وحتى أنا معالجتها، أثاروا جميعاً لديها التشوق والخوف، والرغبة في الثقة على قدم المساواة مع العزم على تجنب الثقة بأي ثمن.  أعلنت بشدة معارضتها لمعظم مقترحاتي العلاجية: “لن أتحدث عن الصدمة أو الانفصال عن الذات [3]dissociation – أنا لا أريد تطبيق تقنية EMDR، وبالتأكيد لن أقوم بأي من تلك التمارين الجسدية الغبية [مثل العلاج الحسي الحركي، Sensorimotor]. “شعرت أن يدي مقيدة.  لم أكن أعرف ما إذا كنت سأندفع أو أتراجع، أتعاطف أو امسك لساني. لا شيء يعمل معها.”  في حيرة، التفت إلى آلان شور وJoseph LeDoux للمساعدة في فهم جيسي بطريقة مختلفة.

 وفقًا لـ LeDoux (2002)، فإن اللوزة الدماغية لدى جيسي – الجزء من الدماغ الذي يمسح بحثًا عن الخطر ويجهز نظام الاستجابة للضغط stress response system – أصبح بلا شك مستثاراً “سريع الانفعال Irritable” في سياق الرعب من الأم مخيفة، والأب الخائف الذي لا يحميها، والأشقاء الذين لا حول لهم ولا قوة.  سواء “تذكرت جيسي الأحداث شعورياً أم لا، فجسدها يعيش الحالة برمتها. وفي ظل عدم معرفتها بأن مجرد القرب من الآخرين وحده يمكنه تحفيز الذكريات العاطفية للجسد عن خطورة كونها تحت “رعاية” شخص غاضب، مستاء، وذو شخصية هذائية paranoid، افترضت جيسي أن سبب خوفها أو غضبها هو سلوك من حولها – بمن فيهم أنا. من هنا علمت أن وظيفتي كانت تجنب تنشيط اللوزة المخية لديها، وفهم ردود أفعالها المحيرة على أنها استجابات للتوتر أو، أبعد من ذلك، أنها ردود فعل دفاعية حيوانية.  ألهمتني كتابات شور (2003؛ 2002) للتفكير فيها أن ميول جيسي الانتحارية هي مشكلة في تنظيم الانفعالات وليست رغبة أو نية للموت.  مع نظامها العصبي المضطرب أو غير المنظم، وخبراتها التكيفية المحدودة التي أتت من طفولتها، فإن قدرتها على التهدئة في حالات الشعور بالخطر كانت محدودة للغاية.

 كانت تهرب في بعض الأحيان من مكتبها في أيامها السيئة، لتختبئ تحت الأغطية في حالة انفصال عن ذاتها dissociation، أو تقاتل من أجل السيطرة على مشاعرها بالتخطيط للخلاص بموتها. إن أي مثير Reminder مرتبط ولو بشكل غير مفهوم بتجاربها الصادمة المبكرة كان يثير الخلل في نظامها العصبي فيطلق إنذارات كاذبة في اللوزة، لتغلق أو تنشط بشكل زائد نظامها العصبي المستقل autonomic nervous system  وإعاقة قدرتها على مراقبة الذات والتفكير بوضوح.  لكن لو لم أكن أعرف أنا عن ذلك، كيف كانت ستدرك أن جسدها كان يتذكر؟

لكنني عرفت الآن.  مع هذا القليل من علم الأعصاب، بدأت في العمل أكثر بشكل خلاق مع جيسي.  بدلاً من ربط الأحداث الماضية شفهياً بمصائب الواقع الحالي أوفي محاولة لمساعدتها على تعلم مهارات تنظيم المشاعر الغامرة، ركزت فقط على هدفين:

الأول: عدم تفعيل اللوزة المخية لها في الجلسة واستخدام صوتي ولغة جسدي لتهدئة وتنظيم جهازها العصبي – تمامًا كما كنت أتذكر أثناء هدهدة الأطفال.

 على سبيل المثال، عندما تطوي ذراعيها وتقول، “ليس لدي شيء لأفعله أتحدث عن اليوم”، فإنني أرسم على وجهي ابتسامة.

 “لماذا تضحكين؟”  كانت تسأل بغضب.

 أود أن أضحك أكثر: “لأن هناك دائمًا الكثير لنتحدث عنه!  ‘لا شيء.’ هذا مضحك للغاية “.

 سوف ترتسم ابتسامة صغيرة على وجهها طالما كنت مستمتعة بدلاً من أن أرتبك أو أنغلق بتأثير قولها “لا شيء للحديث عنه.”  وإذا قالت: “لا يمكنك مساعدتي”، كنت أدع ذراعي مستندة إلى ذراع الكرسي في إيماءة وأبسط كفي لها وأتركها هكذا. وفي الواقع، لاحظت أنها بدت أكثر هدوءً عندما رأت ذراعي الممدودة قليلاً. أحياناً كنت أتقصد لفت نظرها فأقول لها مبتسمة:

 “تذكري .. إن يدي ستبقى مبسوطة إليك هكذا”.

صورة يدي المبسوطة إليها كان لها عليها مفعول مهدئ على ما يبدو.  

توقفت عن إظهار محاولة جاهدة للمساعدة (لأن هذا كان يوترها على ما يبدو لي).  (توقفت عن الإلحاح عليها). بدلاً عن ذلك، حرصت على أن تبقى الرسالة من خلال وضعية يدي الممدودة في بالها.

بدلا من محاولة إقناعها بأن الصدمة كانت أساس وسبب صعوباتها، بدأت في إجراء ملاحظات دافئة حول مقدار ما ناضل والداها في الحياة، وقد أدى هذا بها إلى أن تهدأ بما يكفي لتعبر لي عما تلقاه من صعوبة مع عائلتها:

“أنا أحبهم، ولكن حتى زيارة قصيرة لمرة واحدة يمكن تدهور حالتي لأسابيع.. لا أعرف لماذا”.

 بدلا من أن ألبي رغبتي الداخلية بإخبارها بالسبب، حاولت فقط أن أظهر لها الاهتمام دون تقديم الإجابة، فقط للحفاظ على فعالية القسم الأنسي من القشر الجبهي الأمامي:

“حسنا، يمكننا أن نكون فضوليين عن ذلك، هاه؟”

شجعتني قراءتي في فكر شور على أن يكون تفاعلي معها من “الدماغ الأيمن إلى الدماغ الأيمن”. بدلا من استخدام الكلمات أو المنطق أو التفسير للصلة بين المشاعر ومستذكرات الصدمة، أود الاعتماد على التواصل غير اللفظي الذي كان متاحاً. إنني وبشكل حدسي سأنشئ ردي التالي بناء على ردها على آخر ملاحظة أو آخر وضعية جسدية كانت لي. وهذا يعني أن انتبه أولا إلى كلماتي ونغمات صوتي ولغة جسدي، ثم مراعاة ردود أفعالها اللفظية وغير اللفظية، ثم تعديل رسالتي التالية قليلا لزيادة ما بدا أن يخلق اتصالا معها، الاهتمام به وتغيير طريقة التحدث التي أغلقتها سابقاً أو أثارت تهيجها.

 في ذلك العام، على الرغم من أن جيسي لم تتراجع أبدا عن موقفها بشأن ما يمكن أو لا يمكن أن نتحدث عنه، إلا أنها لم تقم بأي محاولات انتحارية. كانت أكثر استقرارا وثباتاً. وعلى الرغم من أنني لم أكن أدرك هذا الأمر في ذلك الوقت، فقد أصبحت معالجة متوجهة بالعمل مع الجسد Body-oriented therapist. كنت أستخدم جسدي للتواصل، وليس فقط دماغي.

مساهمة العلاج النفسي الجسدي Somatic psychotherapy

بحلول عام 2000، أصبح نداء دير كولك: “اذهب إلى الجسد!”. إذا كانت أعراض الصدمة ناجمة عن البيولوجيا العصبيًة، وإذا لم تكن معاناة الصدمة (حالياً) في الحدث الصادم نفسه بمقدار ما هي نتيجة الاستجابات اللاإرادية والعاطفية والجسدية، إذن فينبغي علينا كمعالجين إيجاد طرق للعمل على ما يجري في الجسم. لقد فتح EMDR لنا أيضاً بابًا للعمل مع الجسم عن طريق استنباط معلومات حول الجسم باعتباره مركزيًا لـمعالجة الصدمات trauma processing.  ومثل العديد من معالجي الصدمات، كنت في حيرة من أمري: لقد ساعد EMDR العديد من المتعالجين، وكانت انطباعاتي عن النتائج الآتية من أبحاث علم الأعصاب أنها مفيدة؛ لكن كانت تنتابني الشكوك والهواجس، فقد كنت لدي نفور واضح من أن أترك كل ما تعلمته من قبل، لأخضع لتدريب على العلاج النفسي الذي يركز على الجسم. كان لدي الكثير من الأعذار، معظمها مبني على الجهل: “لن أقوم أبدًا بدراسة منهج علاجي يتطلب اللمس” (الخلط الشائع غير الصحيح بين علاج الجسد والعلاج بالجسد)؛ “أنا كبير في السن لأبدأ في تعلم نهج جديد”؛ “أنا معالج بالكلام – أريد أن أتحدث” (كما لو أن هنالك مانعاً من استخدام الكلام في العلاج النفسي عبر الجسد).  ولكن، من جهة أخرى، ليس هناك شعور أسوأ لأي معالج من عدم القدرة على تخفيف المعاناة، والوعد بأن طريقة جديدة يمكن أن تساعد المرضى الذين هزمت أعراضهم أفضل جهودي كان أمراً لا يقاوم.

 بعد الإغراء الذي أثارته فيديوهات Pat Ogden حول التعامل مع آثار الصدمة النفسية للمتعالجين من الأسفل إلى الأعلى، انتسبت إلى الدورات التدريبية في العلاج النفسي الحسي حركي Sensorimotor Psychotherapy. على الرغم من أن فكرة تضمين الجسد في العلاج النفسي ما زالت تسبب لي بعضًا من الحرج، فإنني أدركت ببطء أن العلاج النفسي المرتكز على الجسد لم يكن يتضمن اللمس. علمتني هذه التدريبات أن أعمل بشكل أكثر فعالية وحساسية مع العواطف والمعتقدات، وليس الجسد فقط.  وعلى عكس ما كنت قد تدربت ومارست على مدار العشرين عامًا الماضية فقد تعلمت مقاطعة مجرى كلام المتعالجين أو أفكارهم لأتأكد من أنهم لن يصلوا إلى مرحلة فقدان السيطرة على اندفاعاتهم الانفعالية، لم أعد أشعر بأن عليّ الالتزام بالاستماع في صمت. بدلا من ذلك، تعلمت إجراء استجابات صوتية لما أسمعه من المتعالجين – “هم. . . نعم. . . uh-ha. . . رائعة. . . “- واستخدام آلية عكس المشاعر mirroring التي استخدمها روجرز، لتعميق قدرة مرضاي على الاستماع إلى أنفسهم. في الواقع، فإن مساعدتهم في معايشة ما يجري في داخلهم كانت تعتبر أكثر أهمية في العلاج النفسي الحسي الحركي Sensorimotor من مجرد الاستماع الجيد. إضافة لذلك، كان أكثر ما أثار اهتمامي أن كل عنصر من هذه عناصر العلاج النفسي الحسي الحركي Sensorimotor كان له هدف محدد على المستوى الدماغي (Ogden, Minton, & Pain, 2006). إن التدخل في الكلام أحياناً والبقاء في تواصل صوتي، على سبيل المثال، كان من المفترض ألا يساعد فقط على شعور المتعالج بأننا معه، ولكن أيضا لتنظيم التحفيز الآتي من الجهاز العصبي المستقل، والحفاظ على بقاء المنطقة القشرية الجبهية من الدماغ على الخط. بالإضافة إلى ذلك، فإن تقنية عكس المشاعر وإعادة الصياغة كانت تهدف لتفعيل الشبكات العصبية المتعلقة بالصدمة بحيث يمكن إعادة تنظيمها من خلال اختبار استجابات بديلة لتكوين خبرة حالية مختلفة. المبادئ الأساسية للعلاج هي المشاركة في استحضار ما يكفي من السرد لتحفيز الذاكرة الضمنية، وتطلب من العميل إيقاف السرد مؤقتا وأن يكون فضولياً، ثم التأمل والملاحظة لكيفية استثارة الاحاسيس والحركات والأفكار والعواطف التي تجلت حتى نتمكن من الشعور بما يريد الجسم أن يفعله الآن، دون أن نترك لهذه الانفعالات أن تغمر المتعالج وتفقده السيطرة.

 لم أعد ملزمة أن أحمل جيسي على للحديث عن طفولتها الصادمة أو حتى أن تعترف به. كنت بحاجة فقط لاستعدادها لتكون فضولية حول ما يحدث لها “الآن”. كانت متشككة وغاضبة في البداية:

“الفضول؟ أتريدين استخدام الفضول لمساعدتي في التعامل مع حياة الجحيم؟ هذا مثير للشفقة! “

لكنني لاحظت أنه على الرغم من كلماتها الغاضبة، كانت منفتحة لتكون فضولية أكثر بقليل بعد ذلك. في المرة القادمة جلست وقالت

“ليس لدي أي شيء للحديث عنه”،

ضحكتُ، كما هو الحال دائما، لكنني طلبت منها أن تكون فضولية:

“عندما تقولين بأن ليس لديك ما تتحدثين عنه”، ماذا يحدث في الداخل؟ هل تشعرين أن الحال يتزحزح قليلاً ليصبح أكثر انفتاحا أو انغلاقاً ولو حبة؟

أجابت: “إنه أكثر تصلباً.. مثل الجدار”

“هذا مثير للاهتمام – هل هو جدار في صدرك، بطنك، أو كلاهما؟”

“الأمر على طول المنطقة إلى أسفل أمامي”.

“مثل الدروع؟”

“نعم.”

“وهل هذا شعور مألوف؟”

“أوه، نعم! أشعر به مع أي شخص يقترب مني. عندما أتمنى لو أنهم يحبونني، لكن، ولكن عندما يقتربون، عندما يريدون شيئا مني، يرتفع الجدار “.

 (وحين أسمع منها تلك الكلمات، “عندما يريدون شيئا مني”، أفكر على الفور في تلك الأم المريضة العقلية العدوانية، لكنني اقمع هذه الرغبة لعمل أي إشارة لهذا الترابط، متذكرة أن عدم الإيحاء بتلك التداعيات سيكون أفضل لجيسي).

 “كم هذا ذكي، إذن أنشأ جسمك الجدار لحمايتك من الأشخاص الذين يريدون الأشياء، رائع! دعينا نكون فضوليين حول كيفية عمله – لنلاحظ كيف يعرف الجدار عندما يريد الناس أشياء منك “.

لقد قمت قاصدة بإعادة تأطير النظرة للجدار كأداة مفيدة، وإذا بجيسي تبدو أكثر استرخاء وهي تتحدث. لم تعد هذا الشخص الذي “لا شيء لديه ليتحدث عنه”. تنشطت الآن، وهي تتحدث عن الجدار وكيف يساعدها على الحفاظ على وجهها خالياً من أي تعبير أثناء مارستها عملها كمختصة اجتماعية. إنه يربك أصدقاءها، كما تقول، إنهم غالبا لا يعرفون ما إذا كان عليهم أن يقربوا منها أن أو يتركوها وشأنها. علقت أنا موافقة:

“نعم، الجدار يربكني أنا أيضاً في بعض الأحيان. هذا رائع – هذا يعني أنه يؤدي الغرض”.

تبسمت جيسي ابتسامة عريضة من الأذن إلى الأذن، ثم ضحكنا معاً بصوت عال، مع فهمنا كيف يؤدي الجدار وظيفته بشكل فعال للغاية. في طريقة التفكير النفسي الحسي الحركي Sensorimotor، يكون هذا القدر كافياً مما نريد الوصول إليه اليوم. الجدار مريح ويبعث على الاسترخاء في مواجهة الفضول. جيسي على استعداد لدراسة ذلك كأنه نموذج، دون تحليل لماذا أو كيف نشأ هذا النموذج، وأريد مساعدتها تعلم أن تكون واعية ببساطة بالجدار، وأن تتمكن من أن تختار إرادياً الاستفادة منه أو لا، بدلا من السماح له بالسيطرة على علاقتها بي في العلاج وغيرها من العلاقات الوثيقة بالآخرين.

بدايات ثورة اليقظة الذهنية Mindfulness:

بدأت ثورة اليقظة الذهنية في الثمانينيات والتسعينيات، لم يكن هناك سؤال حول هدف علاج الصدمة: كان من البديهي أن الهدف هو العودة إلى الماضي، أعادة معايشة الخبرة الصادمة مرة أخرى، ثم الخروج من الجانب الآخر شاعراً بالارتياح قائلاً: “لقد فعلتها”. إنها رحلة علاجية تتحرك بترتيب زمني من الماضي إلى الأمام على افتراض أن المرور عبر ذلك الجحيم مرة أخرى، سوف يجعلنا نشعر بأن الماضي “انتهى ولم يعد له أثر”. كان هذا يبدو منطقياً، بالنظر إلى أنه كان النموذج الوحيد المتاح في تلك العقود. في العقد الذي يبدأ في عام 2010، بعد ثلاثين عاما، وفيما المعالجون النفسيون في أوج عصر اكتشافات علم الأعصاب، فإنهم صاروا الآن شهوداً لفصل جديد وتيار جديد يظهر: ثورة اليقظة الذهنية. وفي حين تم اعتبار الأمر في البداية مثيراً للاهتمام ولكن غير ذي صلة بممارسة العلاج النفسي، فإن العلاجات القائمة على اليقظة الذهنية الآن تأخذ موقعاً مركزياً ومتميزاً.

 وينبغي هنا الحذر من أن يتم الخلط بين الطرق العلاجية المعتمدة على اليقظة الذهنية، وبين ممارسة التأمل. التأمل هو نشاط فردي يتركز على ممارسة “الانطلاق إلى داخلنا”، وملاحظة التنفس أو تدفق الأفكار والمشاعر والأحاسيس أثناء حدوثها. في العلاج النفسي، اليقظة الذهنية فهي ممارسة ذاتية لـ “الوجود هنا الآن”. الماضي هو يصبح مهماً فقط حين يتداخل مع تجربة لحظة الحاضر. طريقة اليقظة الذهنية في العلاج النفسي تتطلب من كل من المعالج والمتعالج أن يراقبا استجاباتهما لحظة بلحظة لكلمات بعضهما البعض، ونغمة الصوت، ولغة الجسم، والعواطف، والأفكار أو حتى التخيلات. وفي حالات اضطراب ما بعد الصدمة، في الوقت الراهن للناجين من الصدمة، فإنهم عرضة بشكل كبير لتدخلات من ذكريات اقتحامية من الماضي المؤلم، بما في ذلك النبض السريع المفاجئ أو تسارع ضربات القلب، تشنجات في المعدة، الغضب والضيق، تخدر المشاعر، الرغبة المفاجئة بالهرب بعيداً أو التسبب بالأذى، صعوبات في التنفس، والأفكار العقابية. حين يبدأ جسد الشخص في الارتجاف، أو الشعور بالخدر، وصعوبة التقاط النفس، فمن الطبيعي تفسير كل ذلك بأن هنالك “شيء على غير ما يرام”. وحين لا يكون لدى المصابين طريقة لفهم ردود الفعل الجسدية هذه على أنها “ذاكرة”، فإنهم سيعاملونها ويفهمونها على أنها تحدد من هم وأين هم الآن. ويبدو أن معاناة معظم الأفراد المصابين بالصدمات تأتي في كثير من الأحيان من المشاعر المقتحمة لحاضرهم من الماضي، مشاعر مثل الشعور بالعار، والخوف وأحاسيس الجسم المضطربة والأفكار العقابية، أكثر مما تأتي مما تأتي من وقائع ذكريات السيرة الذاتية للصدمات.

 قدمت لنا معارف العلوم العصبية تفسيرا علميا لكل واحدة من هذه الظواهر، لكنها لم تقدم وسيلة لمساعدة مرضانا على تغيير علاقتهم مع الماضي المظلم. أما اليقظة الذهنية فإنها وبشكل جذري تدور حول مسألة العلاقات: كيف هي علاقتنا مع جسدنا؟ مع أفكارنا؟ مع انفعالاتنا؟ ومع الأشياء الأخرى فينا وحولنا؟ هل يفسر المتعالج ارتجافه ومشاعر العار أو كراهية الذات على أنها دلالة على أنه هو نفسه (ناقص ومعطوب والخطر يحيط به)؟ أم يعزو هذه المشاعر على أنها ناجمة عما يقوم به المعالج لمساعدته؟ هل تنمو في المتعالج علاقة نفور حيال كل ما حدث وكل ما نتج عنه مثل ما حدث مع جيسي؟ حين أصبحت جيسي مهتمة بالجدار الخاص بها، والذي تتعبر عنه الأحاسيس الجسدية بالتدرع (ارتداء الدرع) والكلمات من مثل (لا شيء لدي لأقوله)، حين ثار فضولها حوله فإن علاقتها به وبي قد تغيرت. لم تعد بعدها متشبثة (متعلقة) بالحفاظ على جدارها مرفوعاً طول الوقت.   أصبحت مهتمة بهذا الجدار وفضولية حول كيفية خدمته لها بشكل جيد أو بشكل سيء، بل إن شيئاً من الشغف قد ظهر لديها حيال هذا كله. هذا التغير الذي طرأ على علاقتها بالجدار، قد غير بشكل تلقائي علاقتنا العلاجية، بل إنه قد غير من موقفي أنا أيضاً من الجدار. هكذا، وبدلا من رؤية الجدار كعائق أمام “العمل الحقيقي” للعلاج، يمكن أن أقدر الطريقة التي قام بها الجدار بحمايتها من الأم المخيفة التي تتشبث بها تارة وتهاجمها بغضب تارة أخرى. صار لدي احترام لذلك. لم يعد عليّ أن أقوم بتسمية علاقة جيسي بماضيها، ولكن ببساطة أن أشير بتواضع إلى التداعيات التي تأتي في ذهني حول ماضيها على أنها مجرد تداعياتي الخاصة، وعند ذلك ظهر لدي ولديها أيضاً التقدير والامتنان لدور مبدأ (هنا والآن) في التعرف إلى الحائط. كنا أنا وجيسي نقوم بمعالجة الصدمة، لكن ليس من خلال استكشاف الماضي – كنا نعيد تنظيم علاقتها بهذا الماضي كلما اقتحم حاضرها. تدريجياً، كان الجدار يصبح أكثر مرونة، وإذا ارتفع بشكل قاس أحياناً، فقد صار من الأسهل بالنسبة لكل منا أن نكون فضوليين حياله، ونجده مثيراً للاهتمام وحتى مسلياً بدلا من أن يحبطنا.

على مدار السنوات العشر الماضية، تعلمت أن أطلب من المتعالجين لدي اتخاذ نهج تجربة اللحظة الحالية الحاضرة في التعامل مع الحاضر ومع الماضي كذلك، وتنحية العادات المتأصلة في التجنب وتحليل السلوك الذاتي بصورة عقابية، من أجل الانخراط في بناء عادات جديدة من عدم إطلاق الأحكام، ومع تكرار كاف لهذا تتطور إلى رأفة بالذات أو على الأقل نوع من الحيادية تجاه الذات وعدم القسوة عليها. لقد أتى تيار اليقظة الذهنية امتداداَ طبيعيا لثورة علم الأعصاب: باستخدام اليقظة الذهنية لتفعيل القشرة الجبهة السطحية، كما أوضح دان سيجل Dan Siegel (2010)، يقلل نشاط اللوزة Amygdala وهذا بدوره يساعد المتعالجين لتنظيم فاعلية الجهاز العصبي المستقل. إن مساعدة المتعالجين في زيادة الفضول والاهتمام بدل اللجوء المعتاد إلى لوم الذات ومشاعر العار، هي عملية تستغرق وقتاً أطول من حكاية قصة ما حدث، ووصف المشكلة، أو حتى وضع حلول للمشكلة. قد يشعر كل من المعالج والمتعالج بهذا البطء في التقدم، لكن البحث في المرونة العصبية يخبرنا أن التركيز والاهتمام وإعادة التكرار للاستجابات الجديدة يمكن أن يساعدنا في ترسيخ شبكات عصبية جديدة، جنبا إلى جنب مع شبكات الذاكرة المرتبطة بالأحداث الصادمة، مما يمهد الطريق أمام إحراز لحظات السلام الداخلي، والشعور بالرفاه، والاستمتاع في حياة المتعالجين.

 من بدايات حقل علاج الصدمات في الثمانينيات، لاحظ الخبراء أن رفاهية الحياة Well-being بعيدة المنال للمتعالجين من الصدمات. إن الشعور بالرفاه والسعادة في الحياة يتعارض مع إشارات الخطر والعواطف المؤلمة، التي ينظر إليها غالباً على أنها مقاومة مفيدة للتغلب على الصدمة، وتبدو في الجسد على شكل خدر وانفصال. وحتى إذا كان لدى المصاب توق إلى الحالات الإيجابية لكن يمكن لها أن تكون غير آمنة. لقد أدخلت مقاربة اليقظة الذهنية على مجتمع العلاج النفسي فكرة ثورية: فبدل أن تكون عملية الشفاء في القدرة على الوصول إلى الألم والمشاعر المؤلمة فإنها تقترح إيجاد صلة مع تلك الحالات العارمة، وربما كان الوصول الى علاقة إيجابية معها هو في حد ذاته حقا جوهر الشفاء. في ممارسات اليقظة الذهنية، يتم العناية بالحالات الإيجابية بدلا من تفسيرها كدفاع ضد الحزن أو الغضب أو المقاومة لمعالجة الصدمات أو إنكارها. يحذر ريك هانسون (2014) المعالجين من خطر الانجراف الطبيعي الموجود في كل منا نحو الانتباه للنواحي السلبية. ينتج “التحيز السلبي” في الدماغ نتيجة أولوية التقاط المنبهات السلبية في محيطنا، والبحث عن الخطر بدلا من المتعة، ما ينتج عنه ترميز الخبرات السلبية بسرعة أكبر وبشكل دائم من الخبرات الإيجابية. ويحذر هانسون من أنه إذا لم نحضر للاهتمام بالتجارب الإيجابية في العلاج النفسي، فإن “شبكة الدماغ” ستظل تلقائيا ميالة إلى التقاط الخبرات السلبية “.

 في يوم من الأيام، ربما كنت سأعتبر أن ” العلاج قد فشل” مع جيسي. لم نقم أبداً “بمعالجة الصدمة”. بدلا من ذلك، حافظنا على بقائنا فضوليين، أسبوعاً بعد أسبوع، حيال كل ما يتعارض مع هناء حياتها اليومية، سواء كان حزناَ أو خوفاَ، رغبة في أن تكون قريبة من الآخرين أو في إبقاء الآخرين على مسافة منها، الرغبة في العيش أو الرغبة في الموت. ساعدنا الفضول في ملاحظة العلاقة بين حالات الاكتئاب العميقة والأفكار الانتحارية، وتعلمت جيسي تدريجيا تفسير الأفكار الانتحارية على أنها راية حمراء تشير إلى أن شيئا ما أو شخصاَ ما قد أطلق لديها شعوراً باليأس العميق. ولقد فاجأتني الكلمات التي وصفت بها الحالة الميؤوس منها: “وحدي، البرد – تحيط بي الظلمة – شخصيات غامضة – يأس مطبق – لا يوجد مخرج”.

 لم أستطع المساعدة ولكنها تذكرت بنفسها بيت المزرعة الذي نشأت فيه، بالطريقة التي أبقتها معزولة في المكان وفي العلاقات العائلية الضيقة. طلبت منها أن تلاحظ الشعور بالوحدة المؤلمة، والبرد القارس، واليأس على أنها إشارة آتية من طفل يحاول ارسال رسالة ما. “إذا كانت هذه المشاعر رسالة من هذه الفتاة الصغيرة، فماذا تحاول أن تقول؟”

“ستقول:” من فضلك ساعدني – من فضلك أخرجني من هنا “.

“نعم، إنها تطلب مساعدتك – إنها وحيدة وخائفة جداَ – لاحظي نبضات الانفعال التي تبدو عليك عندما تشعرين بحاجتها الماسة للمساعدة”.

أريد إخراجها من هذه الحالة.

 “ماذا يحدث لها عندما تسمع أنك تريدين مساعدتها؟ انظري فيما إذا كانت سترغب في الذهاب معك. . .

” “نعم، إنها تريد أن تذهب – لكنها في أيرلندا – أحتاج أن آتي بها على متن طائرة”.

بعد ذلك بقليل، كانت هي والفتاة الصغيرة تطيران بشكل خيالي في الأطلسي، والطفلة بدأت الاسترخاء في جسدها، ثم بعد ذلك سألت باهتمام:

إلى “أين نحن ذاهبون؟” “كيف سنصل إلى هناك؟”

وكأنها أم تحتضن ربيبها، أجابت جيسي عن كل سؤال بصبر، وبعد ذلك شعرت في جسدها بشعور الارتياح: لم تعد الفتاة الصغيرة وحيدة وخائفة بعد الآن.

استطعت أن أرى على وجه جيسي نفس المتعة الدافئة على أجيال من الآباء والأمهات التي شعروا بأن أطفالهم توقفوا عن البكاء وشعروا براحة كبيرة وهم يحتضنونهم وهم ينامون على أذرعهم.

“دعيها تشعر بهذه اللحظة يا جيسي – دعيها تشعر أنك هناك معها الآن – كم تستمتعين بكل لحظة تقضينها معها – إنه شعور لم تعشه من قبل.”

لحظة بلحظة، بدءا من “هنا” بدلا من الذهاب إلى “هناك،” لقد أطلقنا جيسي الصغيرة وحررناها من سجن صدمتها الطويل والسماح لها بالطيران إلى المنزل.

الخاتمة

 لقد احتاج هذا المجال الاختصاصي إلى تقدم استغرق أكثر من ثلاثين عاما ليدرك أن “الصدمة ليست على الإطلاق خارج نطاق التجربة البشرية الطبيعية”. وقد صار الآن تخصصاً سريرياً مقبولاً بشكل جيد في جميع أنحاء العالم. في أجزاء كثيرة من الولايات المتحدة، تقوم مديريات الصحة النفسية ببرامج توعوية من أجل “الرعاية المستنيرة بالصدمات  trauma-informed care” برامج ممولة على مستوى الولايات، وعلى المستوى الفيدرالي. بدأت رعاية المصابين للصدمات في أيامها الأولى مع فرضية أن البحث فقط عن الأحداث والأهوال المظلمة والمسكوت عنها من شأنه أن يحرر الناجين من الصدمات. وبذلك، جلب حقل الصدمة الوعي العالمي بما حدث للجنود والمدنيين في الحرب، وما حدث من سوء المعاملة للأطفال والزوجات التي تعرضت للإساءة، ثم ما حدث للناس الذين عاشوا كارثة طبيعية. في هذا العصر الجديد لعلاج الصدمة، يتعلم المعالجون مساعدة مرضاهم في العثور على الحاضر، وليس الماضي – لاكتشاف حكمة أجسادهم، واستخدام مواردهم، وتطوير صمودهم. إن بدائل العلاج كثيرة منها: EMDR، العلاج النفسي الحسي الحركي، النسق الداخلي للأسرة، الخبرة الجسدية، تمارين التحرر من الصدمة، علاج القبول والالتزام، أيضا اليوغا المتمركزة على الصدمات، علاج الدراما، علاجات الطاقة، العلاج بالإبر الصينية وغيرها.  وفي هذا المجال نحن مهتمون الآن بأكثر من مجرد سرد ما حدث. وهذا لا يعني أن الاستماع والمشاهدة غير مهمة، ولكن المعالجين اليوم أكثر اهتماماً من بخبرة التعلق لدى متعالجيهم، وكيفية عمل دماغهم وجهازهم العصبي. المعالجون يتمركزون اليوم أكثر على قدرتهم على الملاحظة بدلا من الحكم، وعلى كيفية بقاء متعالجيهم على قيد الحياة، وليس فقط ماذا حدث لهم.

 قبل ثلاثين والنصف، كان اهتمامنا مركزاً على المساعدة ونتواصل مع مشاعرهم الأكثر إيلاماً. في هذا العصر، كما يصف دون يمكن أنبوم دون ميشينباوم، “الهدف من علاج الصدمة ليس سرد قصة ما حدث ولكن تطوير قصة شفاء،” قصة تساعد على العيش بسلام مع ما مروا به لمساعدتهم في دمج الماضي بالحاضر (Meichenbaum, 2012).

إن تحديات تقديم المساعدة للضحايا، إلى جانب الشعور الملح بضرورة رؤيتهم يحصلون على المساعدة التي يستحقونها، أدى في عالم علاج الصدمات إلى بحث مكثف عن الإجابات على مدى السنوات الثلاثين الماضية. ولكن ماذا سيحدث بعد ذلك؟ هل وجدنا أخيرا الإجابات التي نسعى إليها؟ أم أن هذا مجرد بداية؟ حقيقة أن الخلافات القوية حول النهج لا تزال موجودة في مجال علاج الصدمات، وهي قد تكون علامة على وجوب المزيد من العمل للعثور على “الإجابات”. لم يتم بعد حل الصراع بين الأساليب التي تركز على الأحداث، مثل العلاج السلوكي المعرفي، والعلاجات التي تركز على الذاكرة الضمنية، مثل EMDR أو العلاج النفسي الحسي الحركي Sensorimotor. ومع انتشار وتقدم متطلبات الممارسة المبنية على الأدلة العلمية، تظهر توترات جديدة تتمحور حول الفوارق بين نتائج البحوث مقابل النتائج السريرية. لا تشبه موضوعات الدراسات البحثية دائماً ما يحدث مع المتعالجين كما يراهم المعالجون للصدمات، لأن منهجية البحث تسمح باستبعاد الحالات والأعراض المعقدة والمقاومة للعلاج. يظهر موضوع اختيارات المتعالجين وتفضيلاتهم في ميدان العلاج ولكن لا يظهر في الدراسات بحثية. عدا عن ذلك فإن المتطلبات المنهجية لضبط الأدلة والبراهين لا تأخذ الفروق الفردية في تحمل العلاج أو الاستجابة له. ولكن ربما تكون هذه الخلافات صحية ومفيدة وسوف تساعدنا في البقاء فضوليين وتوجه انتباهنا إلى الآفاق الجديدة التالية في علاج الصدمة والتعلق الصدمي traumatic attachment. هناك جبهات متنوعة للعمل عليها الآن: تثقيف المختصين في الصحة النفسية العامة حول انتشار الصدمة واضطرابات التعلق، والتغلب على وصم اضطرابات الشخصية المرتبطة بالصدمات trauma-related personality disorders، وتطوير معايير تشخيصية جديدة تصبح للأعراض المتعلقة بالصدمة وللاضطرابات تسميات أدق وبالتالي مفهومة بشكل أكبر. إن مسألة الصدمات هي مسألة عابرة للثقافات وللقوميات، وسيكون من الأهمية الفائقة أن نركز الانتباه أيضا على كيفية ظهور آثار الصدمة بشكل مختلف في السياقات الثقافية المختلفة وكيفية تكييف العلاجات مع كل ثقافة حتى تكون ذات صلة وذات مغزى لكل فرد.

وبغض النظر عن طبيعة الصدمة، وعن الفوارق الفردية في تأثيراتها تبعاً لعرق/ثقافة المصاب، فإن الهدف يقف اليوم في علاج الصدمة هو “أن تكون هنا بدائل من هناك” (فان دير كولك، 2001).هدفنا الآن هو مساعدة المصابين في استعادة حقوقهم الأساسية والتي هي من حق جميع بني الإنسان: الشعور بالأمان والقبول والرفاهية

قائمة المراجع:

American Psychiatric Association (1980). Diagnostic and Statistical Handbook of Mental Disorders Washington, D.C.: American Psychiatric Association.
 
Bass, S. & Davis (1988). The Courage to Heal: A Guide for Women Survivors of Sexual Abuse. New York: Harper Collins
 
Blatner, A. (2012). Reflections on the history of psychotherapy (Part 3): Innovations in the 1960s-1980s. Retrieved on 20.8.17 from: http://www.blatner.com/adam/psyntbk/historypsychotherapy/hxpsytherapy3.html
 
Hanson, R. (2014). Hardwiring Happiness: The New Brain Science of Contentment, Calm, and Confidence. New York: Harmony Publications
 
Herman, J.L. (2000). Father-Daughter Incest. Cambridge: Harvard University Press
 
Herman, J. L. (1992). Trauma and Recovery. New York: Basic Books
 
Hetrick, S.E., Robinson, J., Spittal, M.J. & Carter. G. (2016). Effective psychological and psychosocial approaches to reduce repetition of self-harm: a systematic review, metanalysis and meta-regression. British Medical Journal Open, 2016; 6: e011024. doi:10.1136/bmjopen-2016-011024
 
LeDoux, J. (2002). The Synaptic Self: How Our Brains Become Who We Are. New York: Guilford Press
 
Meichenbaum, D. (2012). Roadmap to Resilience: A Guide for Military, Trauma Victims, and their Families. Clearwater, FL: Institute Press
 
Min, M., Farkas, K., Minnes, S., & Singer, L.T. (2007). Impact of childhood abuse and neglect on substance abuse and psychological distress in adulthood. Journal of Traumatic Stress, 20(5), 833-844.
 
Schore, A.N. (2003). Affect Dysregulation and Disorders of the Self. New York: W.W.Norton
 
Schore, A.N. (2002). Dysregulation of the right brain: a fundamental mechanism of traumatic attachment and the psychopathogenesis of posttraumatic stress disorder.
 
Australian and New Zealand Journal of Psychiatry, 36, 9-30
 
Shapiro, F. (1997). EMDR: The Breakthrough ‘Eye Movement’ Treatment for Overcoming Anxiety, Stress and Trauma. New York: Basic Books
 
Siegel, D.J. (2010). Mindsight: The New Science of Personal Transformation. New York: Random House.
 
Van der Kolk, B.A. (2014). The Body Keeps the Score: Brain, Mind and Body in the Healing of Trauma. New York: Viking Press
 
Van der Kolk, B.A. (2001). Personal communication
 
Van der Kolk, B.A. & Fisler, R. (1995). Dissociation & the fragmentary nature of traumatic memories: overview & exploratory study. Journal of Traumatic Stress, 1995, 8(4), 505-525

 


[1] الترجمة منشورة في المجلـــة العربيـــة ” نفســــانيـــــات. العـــــدد 72 – ربيــــع 2021 (إصدار 1 جويلية 2021)

[2] تشير الكاتبة هنا إلى الاستجابات المعروفة في حالات حدوث تهديد للحياة، أو إدراك الفرد للمحيط بأنه مهدد لحياته، وهنا وعلى الصعيد العصبي تنطلق نوعية الاستجابات من نوع (اهرب أو حارب)، للمزيد حول الموضوع راجع:

https://www.psychologytools.com/resource/fight-or-flight-response/#:~:text=Information%20Handout,body%20to%20fight%20or%20flee. .

(المترجم)

[3] الانفصال عن الذات أو الأعراض التخلخلية كما ترجمها البعض، (المترجم).

Facebook
Twitter
WhatsApp