هل كل الأرواح سواء؟ قراءة نفسية في تأطير الضحايا
عندما يُعاد تشكيل إنسانيتنا عبر الإعلام
في زمن لا يخلو من الأوجاع، ولكنه يفتقر إلى من يستمع، لم تعد المأساة وحدها كافية لاستدرار العطف. بات على الضحية أن تكون ذات مظهر لائق، قابلة للتسويق العاطفي، مستوفية لشروط الصورة التي يتقبلها العالم. تُنقل إلينا المآسي من كل مكان، لكن بعضها يترسخ في القلب، والبعض الآخر يتلاشى كأرقام هامشية في شريط الأخبار. لماذا؟ الإجابة لا تكمن في قسوة الإنسان فحسب، بل في البنية النفسية والسياسية لما يُعرف بالتأطير الإعلامي.
التأطير ليس مجرد أسلوب إعلامي، بل عملية إدراكية عميقة تشكّل وعينا الجماعي وتحدد من “يستحق” التعاطف ومن يُقصى من الحيز الإنساني. إنه العدسة التي يعاد من خلالها ترتيب الواقع، ليس فقط ما نراه، بل ما يُسمح لنا بأن نشعر به.
علم نفس التأطير
- البنية النفسية للإدراك الانتقائي
من وجهة نظر علم النفس الإدراكي/ المعرفي (Cognitive Psychology)، لا يستقبل العقل البشري المعلومات بحيادية. نحن لا نرى “الحقيقة” كما هي، بل كما تُعرض علينا، ضمن قوالب ذهنية جاهزة تُعرف بالإطارات الإدراكية (Cognitive Frames)¹. هذه الإطارات تُبنى من تجاربنا، وثقافتنا، والإعلام الذي نستهلكه.
عندما يُقدَّم القصف في أوكرانيا على أنه “جريمة حرب”، بينما يُبرَّر القصف على غزة بـ”الحق في الدفاع عن النفس”، فإن الفرق ليس في الحدث بل في الإطار الذي يحيط به. التأطير هنا لا يحدد فقط ما نراه، بل كيف نشعر تجاهه، وأحيانًا إذا كنا سنشعر أصلًا.
- الآليات العصبية للتأطير
دراسات التصوير الدماغي باستعمال الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) تكشف أن التعاطف الإنساني ليس عفويًا كما نعتقد. عندما نشاهد ضحية تنتمي إلى جماعة “قريبة” ثقافيًا أو سياسيًا، تنشط منطقة اللوزة الدماغية (Amygdala)، وهي المسؤولة عن الاستجابة العاطفية. أما عند عرض صور لضحايا من ثقافات أو جنسيات غير مألوفة أو مُؤطرة سلبيًا، فإن المعالجة تتم غالبًا في القشرة الجبهية الأمامية (Prefrontal Cortex)، وهي المسؤولة عن التفكير التحليلي والمنطقي.
بمعنى آخر، بعض الضحايا يلامسون القلوب، وآخرون لا يجدون طريقًا إلا إلى العقول، وهناك من لا يلامسون إطلاقًا.
سياسات تصنيف الضحايا
- أنثروبولوجيا الضحية النموذجية
في النظام الإعلامي العالمي، لا تُمنح صفة “الضحية” بشكل تلقائي، بل وفق معايير ضمنية تصوغها القوة والخطاب والتصوير المرئي. الضحية النموذجية (Ideal Victim) هي من تتوفر فيها الصفات التالية:
البراءة السياسية: يجب أن تبدو محايدة، غير منخرطة في أي صراع سياسي، ولا تحمل رأيًا أو موقفًا يمكن تأطيره كـ “تهديد”.
القابلية للتصوير المرئي: يُفضَّل أن تكون الضحية شابة، بيضاء البشرة، ذات ملامح مألوفة للذوق الغربي.
العجز التام: كل ما يوحي بالقوة أو المقاومة يضعف من صورة الضحية. العالم يتعاطف أكثر مع من لا يستطيع أن يدافع عن نفسه.
- من هم الضحايا غير المرغوب فيهم؟
الضحايا الذين لا ينسجمون مع هذا الإطار يُسحب منهم الاعتراف الضمني بمأساتهم. ومن أبرز فئاتهم:
المقاومون: من يدافع عن حقوقه يُصنَّف كـ”فاعل” لا كـ”ضحية”، على الرغم من أن كونه ضحية سابقة هو ما دفعه للمقاومة أصلًا.
ضحايا الحلفاء: مثل المدنيين في اليمن أو سوريا، حيث يغيب التعاطف الإعلامي لأنهم يسقطون تحت قصف “الأصدقاء”.
الضحايا المعقدون: أولئك الذين لا تصلح قصتهم للعرض كحكاية أخلاقية بسيطة، فيُستثنون من الخطاب لأسباب تتعلق بعدم وضوح موقعهم في السردية العالمية.
تقنيات التلاعب بالوعي الجماعي
- لغة الإبادة: حينما تُزوَّر الحقيقة بالكلمات
اللغة ليست مجرد أداة للتعبير، بل أداة للتحكم. من خلال ما يمكن وصفه بـ “التنقية الدلالية” (Semantic Sanitization)، تخفف الكلمات من وقع الجرائم: لا يُقال “قُتل”، بل “تمت تصفيته”. لا يُقال “مجزرة”، بل “اشتباك”. كما يُستخدم “الصراع” بدل “الاحتلال”، و”الإجلاء” بدل “التهجير القسري”³.
ويُمارَس “التخصيص الانتقائي” (Selective Personalization) حين تُروى تفاصيل دقيقة لضحايا معينين بينما يُختصر الآخرون إلى مجرد أرقام لا أسماء لهم ولا صور لهم.
- اقتصاد الصور: من يملك الحق في أن يُرى؟
الإعلام يمارس انتقائية بصرية قاسية. هناك ما يمكن تسميته بـ “تراتبية بصرية” (Visual Hierarchy) حيث تُعرض صور بعض الضحايا بتركيز شديد، ويُخفي البعض الآخر حماية للسردية العامة. صور الطفل السوري إيلان اجتاحت العالم، لكنها لم تفسح المجال لصور مئات الأطفال اليمنيين أو الفلسطينيين الذين واجهوا نفس المصير، لأنهم سقطوا في المكان الخطأ، على يد الجهة “الخطأ”.
ويُمارس الإعلام “رقابة ذاتية” (Self-Censorship) دقيقة، لا تخفي الحقيقة فحسب، بل تعيد تشكيلها بما يتوافق مع متطلبات السوق، والسياسة، وخطاب الهيمنة.
تداعيات نظام الضحايا الهرمي
- أسواق التعاطف العالمية
التعاطف لم يعد فعلًا إنسانيًا تلقائيًا، بل سلعة تُعرض وتُستهلك. هناك “أسواق تعاطف” (Empathy Markets) تُدار فيها المعاناة كما تُدار السلع، وفقًا للعرض والطلب، وللموقع الجيوسياسي للضحية⁴.
- الأخلاق النيوليبرالية: تسليع الكرامة
في ظل “الأخلاق النيوليبرالية” (Neoliberal Morality)، أصبحت حقوق الإنسان ذاتها قابلة للاستغلال الإعلامي والسياسي. تُستخدم كرموز في الحملات، تُرفع كشعارات عندما تكون مفيدة، وتُهمل حين تتعارض مع صفقات أو تحالفات.
نحو إنسانية غير انتقائية
لمواجهة هذا التلاعب الجماعي بالوعي، نحن بحاجة إلى:
وعي نقدي (Critical Awareness): أن نتساءل دائمًا عن الإطار الذي يُقدَّم لنا، ليس عن الحدث فقط، بل عن الطريقة التي يُصاغ بها.
مقاومة سيميائية (Semiotic Resistance): أي بناء لغة وصورة جديدة، تتحدى السردية السائدة وتعيد للضحية حقيقتها غير القابلة للاختزال.
تضامن جذري (Radical Solidarity): تضامن لا يعتمد على التشابه أو القرب أو “القابلية للتسويق”، بل على إنسانية مشتركة لا تخضع للترتيب.
“في النهاية، ليس هناك ضحايا من الدرجة الأولى وضحايا من الدرجة الثانية، هناك بشر فقط يستحقون الكرامة نفسها”
المراجع:
Bruneau, E. G., & Saxe, R. R. (2010). Attitudes towards the outgroup are predicted by activity in the precuneus in Arabs and Israelis. NeuroImage, 52(4), 1704-1711. https://doi.org/10.1016/j.neuroimage.2010.05.057 Christie, N. (1986). The ideal victim. In E. A. Fattah (Ed.), From crime policy to victim policy (pp. 17-30). Palgrave Macmillan. https://doi.org/10.1007/978-1-349-08305-3_2 Chouliaraki, L. (2006). The spectatorship of suffering. SAGE Publications. Entman, R. M. (1993). Framing: Toward clarification of a fractured paradigm. Journal of Communication, 43(4), 51-58. https://doi.org/10.1111/j.1460-2466.1993.tb01304.x Foucault, M. (1980). Power/knowledge: Selected interviews and other writings 1972-1977 (C. Gordon, Ed.). Pantheon Books. Hein, G., Silani, G., Preuschoff, K., Batson, C. D., & Singer, T. (2010). Neural responses to ingroup and outgroup members’ suffering predict individual differences in costly helping. Neuron, 68(1), 149-160. https://doi.org/10.1016/j.neuron.2010.09.003 Scheufele, D. A., & Tewksbury, D. (2007). Framing, agenda setting, and priming: The evolution of three media effects models. Journal of Communication, 57(1), 9-20. https://doi.org/10.1111/j.0021-9916.2007.00326.x Västfjäll, D., Slovic, P., Mayorga, M., & Peters, E. (2014). Compassion fade: Affect and charity are greatest for a single child in need. PLoS ONE, 9(6), e100115. https://doi.org/10.1371/journal.pone.0100115 |