تعد ظاهرة المحتال من الموضوعات المهمة، التي تؤثر تأثيرًا كبيرًا في الصحة النفسية للاختصاصيين النفسيين، وفي أدائهم الوظيفي؛ إذ يشعر الاختصاصي النفسي بعدم الكفاءة أو عدم الاستحقاق أو كأنه محتال، وهي حالة يحدث فيها الشك في الذات، وإنكار الإنجاز على الرغم من وجود أدلة تثبت الكفاءة والإنجاز.
وصفت كلانس وآيمز (Clance and Imes) ظاهرة المحتال أول مرة عام (1978)، وحظيت باهتمام واسع بعد صدور كتاب كلانس (Clance) عام (1985)، وكانت قد رصدت الظاهرة بين النساء المحترفات اللواتي لديهن إنجاز عال، ولكن أظهرت الأبحاث الحديثة أن هذه المشاعر (عدم الكفاءة والشك الذاتي) توجد لدى الرجال والنساء، وفي العديد من البيئات المهنية. (Bravata et al, 2020, p.1252)
تعريف ظاهرة المحتال:
تشير ظاهرة المحتال (Impostor Phenomenon) إلى حالة نفسية يعاني فيها الفرد من مشاعر غير مبرّرة بأنه محتال على الصعيدين المهني والفكري، ويصاحبها خوف دائم من فقدان القدرة على الحفاظ على الأداء، وأن يكتشف الآخرون أنه ليس بالكفاءة التي يظنونها. (Para et al, 2024, p.1)
وظاهرة المحتال ليست اضطرابًا نفسيًا؛ فهي غير مدرجة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM) الصادر عن الجمعية الأمريكية للطب النفسي، وغير مدرجة في التصنيف الدولي للأمراض (ICD-10). (Bravata et al, 2020, p.1252)
عناصر ظاهرة المحتال:
اقترحت كلانس (Clance, 1985, As stated in Clark et al, 2022) نمطًا محددًا لظاهرة المحتال يتكون من ستة عناصر:
1. دورة المحتال: يعاني الأفراد من الشك الذاتي، والخوف من عدم القدرة على تكرار إنجازاتهم، والانشغال بالإخفاقات السابقة، وقد يشعرون بالقلق والخوف بشأن إتمام المهام بنجاح، ما يدفعهم إلى الإفراط في العمل والاستعداد له، أو المماطلة.
2. الحاجة إلى أن يكون الشخص مميزًا أو الأفضل (التفوق المُطْلَق): يسعى الأفراد إلى تحقيق التميز، ولكن عند الفشل في بلوغ الكمال، يميلون إلى التقليل من قيمة مواهبهم الحقيقية.
3. جانب البطل الخارق (السوبرمان): يتمثل في الحاجة إلى القيام بكل شيء بطريقة مثالية وسهلة (دون عناء)، ما يعزز توقعات غير واقعية.
4. الخوف من الفشل: يرتبط هذا الخوف بمشاعر الخزي والعار، ما يؤدي إلى اتخاذ تدابير صارمة لتجنب ارتكاب الأخطاء، بما في ذلك تجنب التحديات أو أي موقف لا يكون فيه النجاح مؤكدًا.
5. إنكار الكفاءة والاستخفاف بالثناء: يجد الأفراد صعوبة في قبول التغذية الراجعة الإيجابية.
6. الخوف والشعور بالذنب تجاه النجاح: يمكن أن يؤدي النجاح إلى الشعور بالذنب بسبب الخوف من العواقب الناجمة عن الرسائل الموروثة من البيئة الاجتماعية المحيطة أو الأسرة.

درس كلارك وآخرون (Clark et al, 2020) ظاهرة المحتال لدى المتخصصين في الصحة النفسية (العلاقة بين إرهاق التعاطف والاحتراق النفسي والرضا عن التعاطف)، وفيما يأتي خلاصة ما أظهرته الدراسة:
– ترتبط ظاهرة المحتال ارتباطًا سالبًا بالرضا عن التعاطف؛ إذ قد تُشكّل ظاهرة المحتال عائقًا أمام الرضا عن التعاطف، فكلما زاد الشعور بالاحتيال قلّ شعور الاختصاصي بالرضا، ومن ناحية أخرى من الممكن أن يكون الرضا عن التعاطف عامل حماية من ظاهرة المحتال، إذ إنّ الاستمتاع بالعمل قد يساعد الاختصاصيين على الشعور بالانتماء والتقدير داخل مهنتهم، ومن ثم تقليل الشعور بالاحتيال أو عدم الاستحقاق.
– ترتبط ظاهرة المحتال ارتباطًا موجبًا بإرهاق التعاطف، والاحتراق النفسي؛ فالمستويات المرتفعة من الشعور بالاحتيال تشير إلى أن الفرد قد يكون أكثر عرضة لـلشك في الذات، واستخدام إستراتيجيات سلبية في العمل قد تُسهم في تطوّر الاحتراق النفسي في بيئة العمل.
– ترتبط ظاهرة المحتال سالبًا بعدد سنوات العمل لدى المتخصصين في الصحة النفسية؛ إذ تنخفض مع ازدياد سنوات العمل، ما يشير إلى أنه كلما ازداد تعرّف العاملين في الصحة النفسية إلى متطلبات مهنتهم، ونجحوا في مهامهم، وربما حصلوا على تدريبات إضافية، قد يتراجع الشعور بالاحتيال أو عدم الاستحقاق لديهم، ويتمكنون من تكوين هوية مهنية واضحة بوصفهم اختصاصيين نفسيين، وهذا يُعد مطمئنًا للاختصاصيين الجدد في الميدان إذ إن الشعور بالغربة أو عدم الانتماء أمر شائع في المراحل الأولى في أي بيئة مهنية جديدة.
– ارتفاع مستوى الاحتراق النفسي ينبِّئ بارتفاع احتمالية الإصابة بظاهرة المحتال، وهذا يدعم أهمية التدخلات القائمة على العناية الذاتية التي تعالج الاحتراق، ولعلّ بيئات العمل التي تُقدّر جهود الاختصاصيين، وتدعم ممارسات العناية الذاتية الإيجابية يمكن أن تقلل من خطر الاحتراق النفسي، وتعزّز مشاعر الرضا عن التعاطف، ومن ثم قد تخفّف احتمالية إصابة العاملين بظاهرة المحتال.
وأظهرت نتائج دراسة توركل وآخرين (Türkel et al, 2025) أيضًا أن ظاهرة المحتال ترتبط ارتباطًا موجبًا بإرهاق التعاطف، والاحتراق النفسي، والكمالية غير التكيفية لدى عينة من الأطباء النفسيين؛ إذ يميل الأشخاص الذين لديهم كمالية غير تكيفية إلى التركيز على نقاط ضعفهم وإخفاقاتهم، ما يجعلهم أكثر عرضة للإحساس بمشاعر المحتال، وبيّنت الدراسة أن ظاهرة المحتال ترتبط ارتباطًا سالبًا بالرضا عن التعاطف والعمر ومدة العمل.
إستراتيجيات فردية للتعامل مع ظاهرة المحتال:
تذكر مارتينز (Martins et al, 2022): إذا كنت تعاني من ظاهرة المحتال، فهناك العديد من الخطوات التي يمكنك اتخاذها لتخفيف هذه المشاعر، والأهم من ذلك أن تتذكّر أنك لست وحدك، وأن هذه المشاعر شائعة؛ فمن الشائع أن تشعر أنك لا تؤدي عملك على نحو كافٍ عندما ترغب رغبة شديدة في النجاح، ومع مرور الوقت قد تتطور هذه المشاعر إلى ظاهرة المحتال، وفيما يأتي بعض الإستراتيجيات التي أوردَتْها للتعامل مع هذه المشاعر:
ركّز على الحقائق لا المشاعر:
تجعلك ظاهرة المحتال تشعر بأنك لست جيدًا في عملك، لكن تكون هذه المشاعر غالبًا مبنية على الخوف لا الواقع، وأفضل طريقة لمواجهة هذه الظاهرة هي فصل المشاعر عن الحقائق، وممارسة التعاطف مع الذات.
واجه ظاهرة المحتال بالحقائق، وخصّص وقتًا منتظمًا لتأمل مشاعرك ومقارنتها بالحقائق.
ابحث عن الأدلة:
إذا لم يكن الاعتراف بمشاعرك أو مشاركتها يساعدك، فحاول مواجهة هذه المشاعر بالأدلة، إذ لا تستند ظاهرة المحتال إلى حقائق غالبًا؛ لذلك ركّز على الحقائق لمواجهة هذا الشعور، وإذا كنت تشعر كثيرًا أنك لا تُنجز فاتبع الخطوات الآتية:
1- راجع المشاريع الأخيرة التي أنجزتها.
2- راجع جودة عملك لترى إذا كانت هذه المشاعر قائمة على حقائق.
وإذا تبيّن أنها حقيقية فأنت الآن حدّدت أمرًا ملموسًا يمكنك العمل على تحسينه، أما إذا لم تكن كذلك؛ فاحتفظ بهذه الحقائق لاستخدامها في كل مرة يظهر فيها الصوت الداخلي الذي يقول لك إنك لست جيدًا بما فيه الكفاية.
توصيات:
1- اهتمام المشرفين الإكلينيكيين بإجراء مناقشات حول ظاهرة المحتال ضمن مجال الذات كمعالج (self of the therapist)، لفهم كيفية تَشكُّل هويّة المتدرّب، وتجاربه، ومعتقداته حِيال تجاربه في العمل.
2- وجود مساحة آمنة مع المشرف لمناقشة مشاعر النقص أو عدم الاستحقاق، قد يكون أسلوبًا صحيًا واستباقيًا يساعد على تعزيز وعي الاختصاصي النفسي بنفسه، وتقليل خطر ظهور أعراض قد تؤثر سلبًا في حياته المهنية أو الشخصية، وبالإضافة إلى ذلك يمكن اتخاذ إجراءات داخل بيئة العمل وخارجها لمواجهة العوامل الداخلية والخارجية التي تُغذي ظاهرة المحتال.
3- يشعر الأفراد الذين يعانون من ظاهرة المحتال غالبًا أنهم “الوحيدون” الذين يمرّون بهذه المشاعر وهذا قد يزيد عزلتهم، ولذلك قد يكون العلاج الجماعي، حيث يناقش الأقران والزملاء مشاعر الشك والفشل، علاجًا مفيدًا، ومن المهم أن تُصمم المجموعات بعناية لتوفير بيئة آمنة تُشارَك فيها التجارب بصراحة. (Bravata et al, 2020, p.1272)
يتضح مما سبق أن ظاهرة المحتال قد تكون خفية، لكنّ تأثيرها كبير في حياة الاختصاصيين النفسيين، وتتمثل في فجوة مؤلمة بين الأداء المهني الواقعي والتقدير الذاتي له؛ فالاختصاصي النفسي الذي يشك في ذاته، على الرغم من إنجازه، لا يعيش في ظل شك مزمن فقط، بل يكون تحت ضغط داخلي يقلّص قدرته على الاستمتاع بعمله، وتُظهر البحوث المشار إليها في المقالة (وغيرها) أن هذه الظاهرة ليست خاصة بفئة معينة، بل تنتشر في بيئات مهنية متعددة، وتُغذَّى بعوامل مثل الكمالية غير التكيفية، وقلة الخبرة، والحديث الذاتي السلبي، ولكن مما يُطمئن الاختصاصيين في نتائج الدراسات هو أن ظاهرة المحتال ليست ثابتة، بل يمكن أن تنخفض مع مرور الزمن وزيادة الخبرة، ويمكن علاجها والتعامل معها.
وجود بيئات عمل داعمة، وتوفير برامج تدريبية وإرشادية للاختصاصيين النفسيين الجدد، وتوفير إشراف إكلينيكي يهتم ببعد (الذات كمعالج)، والتوعية بخطورة الكمالية غير التكيفية، وإتاحة الفرصة للاختصاصيين للتعبير عن مشاعرهم دون أن يَصِمَهم أحد، تعد خطوات أساسية للحدّ من الظاهرة وتخفيف أثرها، ومن جانب آخر تؤدي الإستراتيجيات الفردية كإعادة تقييم المشاعر بناءً على أدلة موضوعية، والانتباه إلى الحقائق والإنجازات، والعناية الذاتية، والتعاطف مع الذات دورًا مهمًا للحد من ظاهرة المحتال.
المراجع:
Bravata, D. M., Watts, S. A., Keefer, A. L., Madhusudhan, D. K., Taylor, K. T., Clark, D. M., Nelson, R. S., Cokley, K. O., & Hagg, H. K. (2020). Prevalence, predictors, and treatment of impostor syndrome: A systematic review. Journal of General Internal Medicine, 35(4), 1252–1275. https://doi.org/10.1007/s11606-019-05364-1
Clark, P., Holden, C., Russell, M., & Downs, H. (2022). The Impostor Phenomenon in Mental Health Professionals: Relationships Among Compassion Fatigue, Burnout, and Compassion Satisfaction. Contemporary Family Therapy, 44(1). https://doi.org/10.1007/s10591-021-09580-y
Martins, J. (2022, August 31). 15 Tips to Turn Impostor Syndrome into Confidence. Asana. Retrieved in 15/6/2025, from https://asana.com/resources/impostor-syndrome
Para, E., Dubreuil, P., Miquelon, P., & Martin-Krumm, C. (2024). Interventions addressing the impostor phenomenon: A scoping review. Frontiers in Psychology, 15. https://doi.org/10.3389/fpsyg.2024.1360540
Türkel, N. N., Başaran, A. S., Gazey, H., & Ertek, İ. E. (2025). The imposter phenomenon in psychiatrists: relationships among compassion fatigue, burnout, and maladaptive perfectionism. BMC Psychiatry, 25(1). https://doi.org/10.1186/s12888-025-06470-7