سيكولوجيا التعصُّب في زمن الخوارزميات

في عصرٍ تُعيد فيه الخوارزميات تشكيل الوعي الجمعي، لم يعد التعصُّب مجرد انحيازٍ فردي، بل تحوّل إلى ظاهرةٍ بنيوية تُهدد البنى المعرفية للمجتمعات. يُعرِّف علم النفس الاجتماعي التعصُّب (Dogmatism) على أنه “التشبث بمعتقداتٍ أو ممارساتٍ دون استعدادٍ لمراجعتها في ضوء الأدلة أو الحوار” (Rokeach, 1960). لكن هذا التعريف التقليدي لا يكفي لفهم التعصُّب في سياقاته المعقدة اليوم، حيث تُشكِّل المنصات الرقمية مختبرًا لتعزيز الانحيازات عبر آلياتٍ لا واعية.

يتناول هذا المقال ظاهرة التعصُّب الفكري كعائق أمام الحكمة الجمعية، مستندًا إلى أطرٍ نظرية من علم النفس المعرفي والاجتماعي وفلسفة المعرفة، يهدف إلى تحليل الآليات النفسية الكامنة وراء التشبث بالمعتقدات والقناعات الجامدة، وتأثير التكنولوجيا الرقمية في تعزيز الانغلاق العقائدي، مع اقتراح “التواضع المعرفي” كمدخل لتعزيز المرونة النفسية، يعتمد المقال على مراجعة نقدية لأدبيات علم النفس الحديثة، وتطبيقاتها في السياقات الثقافية الراهنة.

السيكولوجيا المرضية للتعصُّب

1. التعصُّب كآلية دفاع ضد القلق الوجودي

وفقًا لنظرية “التنافر المعرفي” (Cognitive Dissonance) لـليون فيستنجر (1957)، يميل الإنسان إلى تجنب المعلومات التي تُناقض معتقداته لتجنب الشعور بعدم الاتساق الداخلي، لكن الدراسات الحديثة في علم الأعصاب الاجتماعي تُظهر أن التعصُّب يتجاوز كونه مجرد تجنبٍ للتنافر، بل هو استجابةٌ للتهديدات الوجودية. ففي دراسة أجراها هورنر وآخرون (2023)، لاحظ الباحثون أن الأفراد الذين يتعرضون لمواقف تهدد هويتهم (مثل النقد الثقافي) يلجؤون إلى التشبث بمعتقداتهم بشكلٍ متطرف كـدرعٍ نفسي.

هنا، يصبح التعصُّب نوعًا من “الاستبداد المعرفي” (Epistemic Authoritarianism)، حيث تُستخدم المعتقدات كأداةٍ لقمع الأسئلة المقلقة، بدلًا من كونها أدواتٍ لفهم العالم.

2. التعصُّب والهوية: الثنائية السامة

يرتبط التعصُّب ارتباطًا وثيقًا بإدراك الهوية ككيانٍ ثابتٍ وغير قابلٍ للتغيير. ففي دراسة نشرتها زميجرود (2020) في دورية Current Opinion in Behavioral Sciences، وجدت الباحثة أن الأفراد الذين يعرّفون هويتهم عبر انتماءاتٍ جامدة (دينية، سياسية، عرقية) يُظهرون مقاومةً أعلى للحوار النقدي مقارنةً بمن يرون الهوية كعمليةٍ ديناميكية، كما أشارت الدراسة إلى أن الجمود المعرفي مرتبط بالتطرف الأيديولوجي والحزبية والدوغمائية عبر الأيديولوجيات السياسية وغير السياسية. يُعلق إيريك إيريكسون (1968) على هذه الظاهرة بقوله: “الهوية المتيبسة هي هويةٌ مريضة”.

الجزء الثاني: التكنولوجيا الرقمية وتضخيم الدوغمائية

1. الخوارزميات كـ”مهندسة وعي”

تشير أبحاث كاس صنستاين (2001) حول “غرف الصدى” (Echo Chambers) إلى أن المنصات الرقمية تعمل على تعزيز الانحيازات عبر خلق فقاعاتٍ معلوماتيةٍ معزولة. لكن الخطر الأعمق يكمن في تحويل هذه الآليات إلى “استعمارٍ معرفي” (Epistemic Colonialism)، حيث تُفرض رؤيةٌ أحاديةٌ للواقع عبر تكرارٍ لانهائي للرسائل المُتحيزة، ففي تقرير أصدرته منظمة مكافحة التشهير (ADL) عام 2021، تبيَّن أن 41% من الأمريكيين الذين شاركوا في الاستطلاع قالوا إنهم تعرضوا للمضايقات عبر الإنترنت، كما وثق التقرير ارتفاعًا حادًا في المضايقات العنصرية ضد الأمريكيين من أصل أفريقي من 42% في العام السابق إلى 59% في عام 2021.

2. المونولوج الرقمي: موت الحوار وولادة القطيعة

يكشف عالم الاجتماع زيجمونت باومان (2000) في كتابه “الحداثة السائلة” أن الفضاء الرقمي حوَّل الحوار إلى “مونولوجاتٍ متوازية”، حيث يصرخ الجميع ولا يسمع أحد. هذه الظاهرة تُنتج ما يُسميه غوردن ألبورت (1954) “التعصُّب بلا كراهية” (Prejudice without Malice)، أي انغلاقًا فكريًا لا يستند بالضرورة إلى عداءٍ للآخر، بل إلى غيابٍ كاملٍ لوجوده في الخريطة الذهنية.

الجزء الثالث: نحو مرونة فكرية: التواضع المعرفي كبديل

1. الفلسفة النفسية للتواضع المعرفي

يُعرِّف ويتكومب وآخرون (2017) “التواضع المعرفي” (Intellectual Humility) على أنه “الاعتراف بحدود المعرفة الفردية، والانفتاح على مراجعة المعتقدات”، تشير دراسة أجراها كويتكي وآخرون (2024) ونُشرت في دورية PLoS One إلى أن الأفراد الذين يتمتعون بتواضعٍ معرفي يُظهرون مرونةً أعلى في المواقف الاجتماعية وقدرةً أفضل على حل النزاعات، حيث وجدت الدراسة أن “التواضع الفكري يتنبأ باستجابات بناءة أكثر واستجابات مدمرة أقل للصراع” في سياقات مختلفة.

2. التطبيقات الثقافية: من التصوُّف إلى العلوم العصبية

لطالما مثَّل التراث الإنساني محاولاتٍ لفهم التواضع المعرفي. ففي الفلسفة التاوية، يُعتبر “التشكيك في اليقينيات” طريقًا إلى التناغم الكوني (Lao Tzu, 6th century BCE). أما الصوفي الإسلامي ابن عربي فيقول: “العلمُ كلُّه ظنٌّ، فمن ادَّعى اليقينَ فقد جَهِل” (الفصوص، القرن الثالث عشر)، تُؤكد أبحاث العلوم العصبية التي أجرتها أودين (2020) أن مناطق الدماغ المرتبطة بالمرونة المعرفية (كالشبكات الأمامية الجدارية الجانبية والشبكات الوسطى الحزامية-المعزولة) تكون أكثر نشاطًا لدى الأفراد المنفتحين فكريًا، وأن هذه المناطق تلعب دورًا حاسمًا في دعم المرونة المعرفية والسلوكية.

هل نستطيع بناء مجتمعاتٍ مقاومةٍ للتعصُّب؟

التعصُّب ليس بيولوجيًا، بل هو نتاجٌ لتفاعلاتٍ معقدة بين النفسي والاجتماعي والتكنولوجي، إن بناء مجتمعاتٍ مرنةٍ يتطلب:

1. تعليم التفكير النقدي كمنهجٍ مؤسسي، وليس كمهارةٍ ثانوية.

2. تشريعاتٍ رقمية تحد من احتكار الخوارزميات للوعي الجمعي.

3. إحياء الحوار الفلسفي كجسرٍ بين العلم والقيم الإنسانية.

كما كتب كارل بوبر (1945): “المجتمع المفتوح هو الذي يسمح لأعدائه بنقدِه دون خوف”.

المراجع

Anti-Defamation League (ADL). (2021). Online Hate and Harassment: The American Experience 2021. https://www.adl.org/resources/report/online-hate-and-harassment-american-experience-2021

Festinger, L. (1957). A Theory of Cognitive Dissonance. Stanford University Press.

Horner, D. E., Sielaff, A., Solomon, S., & Greenberg, J. (2023). Terror management, dogmatism, and open-mindedness. In V. Ottati & C. Stern (Ed), *Divided: Open-mindedness and dogmatism in a polarized world* (pp. 268–286). Oxford University Press. https://doi.org/10.1093/oso/9780197655467.003.0014

Koetke, J., Schumann, K., Welker, K., & Coleman, P. T. (2024). Intellectual humility is reliably associated with constructive responses to conflict. PLoS One, 19(9), https://doi.org/10.1371/journal.pone.0309848

Rokeach, M. (1960). The Open and Closed Mind. Basic Books.

Uddin, L. Q. (2020). Brain mechanisms supporting flexible cognition and behavior in adolescents with autism spectrum disorder. *Biological Psychiatry*, 89(2), 172-183. https://doi.org/10.1016/j.biopsych.2020.05.010

Whitcomb, D., Battaly, H., Baehr, J., & Howard-Snyder, D. (2017). Intellectual Humility: Owning Our Limitations. Philosophy and Phenomenological Research, 94 (3), 509-539. https://philarchive.org/rec/WHIIHO-3

Zmigrod, L. (2020). The role of cognitive rigidity in political ideologies: theory, evidence, and future directions. *Current Opinion in Behavioral Sciences, 34, 34-39. https://doi.org/10.1016/j.cobeha.2019.10.016

Facebook
Twitter
WhatsApp