العلاج السلوكي المعرفي والخصائص الثقافية للمجتمعات

يُعتبر العلاج السلوكي المعرفي (CBT) من أكثر الأساليب العلاجية استخدامًا ونجاحًا في مجال الصحة النفسية، وقد تم تطويره منذ سبعينيات القرن الماضي ليصبح المنهج العلاجي الأكثر اعتمادًا في علاج اضطرابات القلق والاكتئاب والوسواس القهري والإدمان وغيرها (Beck, 2011, p. 3). يقوم هذا النموذج العلاجي على افتراض أن الأفكار والمشاعر والسلوكيات مترابطة، وأن تعديل الأفكار غير المنطقية يقود إلى تحسن انفعالي وسلوكي.

ورغم الانتشار الواسع للعلاج المعرفي السلوكي CBT ونجاحه في البيئات الغربية، إلا أن تطبيقه في مجتمعات غير غربية أثار أسئلة جوهرية تتعلق بمدى ملاءمته للبيئات الثقافية المختلفة؛ فالثقافة لا تحدد فقط كيفية تفسير الأفراد للمعاناة النفسية، بل تحدد أيضًا طرائقهم في التعبير عنها والبحث عن الدعم. (Al-Krenawi, 2005, p. 562)  

 الأمر الذي مهد الطريق لظهور اتجاهات تدعو إلى ضرورة تكييف CBT بحيث يتناسب مع الخصوصيات الثقافية والدينية والاجتماعية للمجتمعات المحلية (Hinton & Patel, 2017, p. 705).

العلاج السلوكي المعرفي في السياق العالمي:

يستند العلاج السلوكي المعرفي إلى فرضية أن الأفكار المشوهة أو غير المنطقية قد تسهم في تطوير أو تفاقم الاضطرابات النفسية، وبالتالي فإن إعادة بناء هذه الأفكار يؤدي إلى تحسين الصحة النفسية (Beck, 2011, p. 3). وقد أثبتت مئات الدراسات فعاليته في علاج الاكتئاب (Cuijpers et al., 2013, p. 377)، واضطرابات القلق (Hofmann et al., 2012, p. 429) في الاضطرابات الجسدية النفسية مثل الألم المزمن والقولون العصبي (Hunter et al., 2018, p. 5).

 أجريت معظم الأبحاث الرائدة في CBT في بيئات غربية (أوروبا وأمريكا الشمالية) أي في مجتمعات تتميز بسيطرة قيم الفردية والاعتماد على الذات، وهذه الخصائص المجتمعية تختلف تماماً عن خصائص المجتمعات الشرقية حيث تحظى الأسرة والدين والمجتمع بأهمية مركزية وهذه هي التحديات التي أشار لها  الممارسون المهنيون عند تطبيقه في مجتمعات جماعية مثل الشرق الأوسط. (Dwairy, 2006, p. 15)

الأبعاد الثقافية المؤثرة في العلاج السلوكي المعرفي:

اللغة والتواصل: اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي حاملة للمعاني الثقافية؛ التعبير عن القلق مثلًا في المجتمعات العربية قد يظهر في شكل شكاوى جسدية (صداع، آلام المعدة) أكثر من التعبير اللفظي المباشر (Hinton et al., 2012, p. 342).

الدين والقيم الروحية: عادة ما تتناول الأديان الكرب النفسي بطرق مختلفة، لعل من أهمها النظر إلى الضيق على أنه ابتلاء أو اختبار إلهي.

إن مثل هذا التقاطع المهم بين القيم والمفاهيم الدينية ومبادئ العلاج المعرفي السلوكي تفتح بابا واسعا لدمجها ضمن الأطر العلاجية واستخدامها بحكمة في إطار مفردات العلاج المتعلقة بالصبر والصمود وغيرها. مع تقنيات CBT يساعد في تعزيز تقبل العلاج (Al-Krenawi, 2005, p. 562).

الأسرة والمجتمع: بينما يركز CBT التقليدي على الفرد، تفرض المجتمعات الجماعية ضرورة إشراك الأسرة في العلاج، فقرارات الفرد غالبًا ما تكون مرتبطة بتوقعات الأهل والمجتمع (Dwairy, 2006, p. 15).

وصمة المرض النفسي: يفضل الأفراد في المجتمعات التي تشيع فيها الوصمة طلب المساعدة الطبية الجسدية بدل النفسية؛ لذا ينبغي للمعالج أن يُعيد صياغة أهداف CBT بما يتناسب مع هذه الحساسية الثقافية (Chowdhary et al., 2014, p. 1133).

النماذج النظرية للتكييف الثقافي:

نموذج AAA  (Awareness – Assessment – Adjustment):الوعي بالفروق الثقافية ، التقييم المناسب للسياق ، التعديل على الاستراتيجيات العلاجية (Hinton & Jalal, 2014, p. 151).

النموذج العابر للثقافات (Transcultural CBT): يدمج المعرفة الإكلينيكية مع الفهم العميق للرموز والمعتقدات المحلية. وقد استخدم بنجاح في آسيا وأمريكا اللاتينية (Hinton & Patel, 2017, p. 705).

النموذج التكاملي العربي: يقترح دمج القيم الأسرية والدينية مباشرة في خطة العلاج لتقليل مقاومة المريض وزيادة فاعلية التدخل (Dwairy, 2006, p. 15).

يبدو أن دمج المبادئ والقيم الدينية في العلاج النفسي ليس بالأمر الجديد في السياق العربي، بل تجاوز كونه مجرد محاولات غير منتظمة، إذ تم تطبيقه وفحص أثره في عدة دول عربية؛ ففي فلسطين، على سبيل المثال، أظهرت دراسة أن برنامجًا علاجيًا قائمًا على العلاج المعرفي السلوكي (CBT) أدى إلى نتائج إيجابية في تخفيف أعراض القلق لدى المشاركين. (سعيد، 2018، ص. 112)

وقد تناولت دراسات أخرى هذا البعد القيمي للمجتمعات العربية، مثل مفهوم الطهارة. ففي دراسة أعدها Al-Khalili (2020)، تم الجمع بين برامج CBT الموجهة لعلاج الوسواس القهري والتوجيهات الدينية المتعلقة بالطهارة والعبادة، مما أدى إلى زيادة تقبل المرضى للعلاج وسهّل مشاركتهم الفعالة فيه. (p. 45)

وفي سياق مشابه، أظهرت دراسة أخرى في مصر، أجراها أحمد (2023)، كيف يمكن دمج المفاهيم القيمية في تطبيقات العلاج السلوكي المعرفي، حيث طُبقت تقنيات CBT لمواجهة التنمر المدرسي، مع الاعتماد على الأنشطة الجماعية لتعزيز روح التعاون والإيثار بين الطلاب. (ص. 113)

وبناءً على هذه الدراسات يمكن الاستنتاج:

إدماج العلاج المعرفي السلوكي بالقيم الاجتماعية وبعض المبادئ الدينية في السياق العربي ليس خيارًا ثانويًا، بل قد يكون ضرورة ملحّة لتعزيز قبول العلاج وفعاليته.

إن هذا التوافق لا يُعد مجرد إضافة شكلية يمكن إدراجها ضمن إطار العلاج، بل يمثل شرطًا جوهريًا لتحقيق فعالية علاجية حقيقية في السياق العربي، فحينما تُدمج القيم الاجتماعية والمبادئ الدينية في البناء العلاجي، فإن ذلك يسهم في تعزيز شعور المراجع بالأصالة والاتساق الداخلي، مما يقلل من مقاومته للعملية العلاجية ويزيد من التزامه بها، كما يساعد هذا الدمج في توفير بيئة علاجية أكثر انسجامًا مع مرجعية الفرد الثقافية والروحية، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على قدرته على إعادة بناء المعنى، وتطوير استراتيجيات أكثر مرونة في التعامل مع الضغوط النفسية.
علاوة على ذلك، فإن إدخال هذه الأبعاد يساهم في تقليل التناقض بين الهوية الثقافية للمراجع ومتطلبات العلاج النفسي الحديث، مما يضمن أكبر قدر من التجانس بين الذات الفردية والجماعية من جهة، والأهداف العلاجية من جهة أخرى، وبذلك يصبح العلاج النفسي أكثر قبولًا واستدامة، ويحقق نتائج أعمق تتجاوز تخفيف الأعراض لتصل إلى تعزيز الصحة النفسية الشاملة ودعم التوازن بين الجوانب المعرفية والسلوكية والروحية.

المراجع:

أحمد، سامي محمد. (2023). العلاج السلوكي المعرفي وأهم تقنياته في التخفيف من السلوك التنمري لدى المراهقين. مجلة علم النفس التربوي، 45(2)، 112-134.

سعيد، محمد. (2018). فعالية برنامج معرفي سلوكي في خفض أعراض الاكتئاب لدى طلبة الجامعات الفلسطينية. مجلة الدراسات النفسية، 12(3)، 110-126.

Al-Khalili, M. (2020). Culturally adapted CBT for obsessive-compulsive disorder in Saudi Arabia. Journal of Muslim Mental Health, 14(2), 45–60. https://doi.org/10.3998/jmmh.10381607.0014.202

Al-Krenawi, A. (2005). Mental health practice in Arab countries. Current Opinion in Psychiatry, 18(5), 560–564. https://doi.org/10.1097/01.yco.0000179498.46182.8b

Beck, J. S. (2011). Cognitive behavior therapy: Basics and beyond (2nd ed.). Guilford Press.

Chowdhary, N., Jotheeswaran, A. T., Nadkarni, A., Hollon, S. D., King, M., Jordans, M. J., Rahman, A., Verdeli, H., Araya, R., & Patel, V. (2014). The methods and outcomes of cultural adaptations of psychological treatments for depressive disorders: A systematic review. Psychological Medicine, 44(6), 1131–1146. https://doi.org/10.1017/S0033291713001785

Cuijpers, P., Berking, M., Andersson, G., Quigley, L., Kleiboer, A., & Dobson, K. S. (2013). A meta-analysis of cognitive-behavioural therapy for adult depression. The Canadian Journal of Psychiatry, 58(7), 376–385. https://doi.org/10.1177/070674371305800702

Dwairy, M. (2006). Counseling and psychotherapy with Arabs and Muslims: A culturally sensitive approach. Teachers College Press.

Hinton, D. E., & Jalal, B. (2014). Guidelines for the implementation of culturally sensitive CBT among refugees and in global contexts. Intervention, 12(2), 150–160. https://doi.org/10.1097/WTF.0000000000000066

Hinton, D. E., & Patel, A. (2017). Cultural adaptations of CBT. Psychiatric Clinics of North America, 40(4), 701–714. https://doi.org/10.1016/j.psc.2017.08.006

Hinton, D. E., Rivera, E. I., Hofmann, S. G., Barlow, D. H., & Otto, M. W. (2012). Adapting CBT for traumatized refugees and ethnic minority patients. Transcultural Psychiatry, 49(2), 340–365. https://doi.org/10.1177/1363461512437750

Hofmann, S. G., Asnaani, A., Vonk, I. J., Sawyer, A. T., & Fang, A. (2012). The efficacy of CBT: A review of meta-analyses. Cognitive Therapy and Research, 36(5), 427–440. https://doi.org/10.1007/s10608-012-9476-1

Hunter, M. S., Coventry, S., & Hamed, H. (2018). CBT for women’s health conditions. Obstetrics and Gynecology Clinics, 45(3), 5–18

Facebook
Twitter
WhatsApp