أضحت لغة الطب النفسي والتشخيصات النفسية، في العصر الحالي، هي اللغة المهيمنة في تفسير المعاناة البشرية، وفقاً Svend Brinkmann سفيند برينكمان في كتابه “الثقافات التشخيصية”، نحن نعيش في مجتمع تُقرأ فيه أحزاننا وقلقنا وتجاربنا الإنسانية من خلال عدسة التشخيصات النفسية، مما يؤدي إلى اختزال الإنسان كظاهرة طبية، حيث يُنظر إلى معاناتنا على أنها أعراض قابلة للتشخيص والعلاج ضمن إطار علم النفس الطبي، تعد هذه الظاهرة محور نقاش أكاديمي وفلسفي حول العلاقة بين العلم والإنسانية في فهم مشاعرنا وتجاربنا الذاتية.
التشخيص النفسي: من أداة طبية إلى ثقافة مجتمعية
يرى برينكمان أن الطب النفسي قد تحول مؤخراً من أداة طبية ذات غاية علاجية إلى سمة ثقافية، حيث أصبحت التشخيصات النفسية هي الوسيلة الأساسية لفهم التجارب الإنسانية، يطرح أن حزن الفرد أو قلقه يمكن تفسيره بسهولة كاضطراب نفسي يتطلب تدخلًا طبيًا، متجاهلاً العوامل الاجتماعية والوجودية التي قد تكون جزءًا من هذه المعاناة، هذه الظاهرة لم تكن موجودة قبل دخول الطب النفسي بشكل قوي في الحياة اليومية للمجتمعات الحديثة، حيث كان يُنظر إلى التجارب النفسية كجزء من دورة الحياة الإنسانية الطبيعية التي تحتاج إلى الفهم والرعاية في إطار مجتمعي أوسع من أن تُختزل إلى حالة طبية.
بالمقارنة مع الفلسفات الإنسانية التقليدية، مثل الفلسفة الوجودية أو التفاعلية الاجتماعية، نجد أن الطب النفسي اليوم غالبًا ما يتجاهل السياقات الثقافية والاجتماعية التي تؤثر في التوترات النفسية. إيرفينغ غولدمان (Irving Goldman) في مقالته “الطب النفسي والفلسفة الاجتماعية” يشير إلى أن التفسير الطبي البحت للمعاناة قد يؤدي إلى التشويش على المواقف الاجتماعية التي قد تساهم في تدهور حالة الفرد النفسية.
الإنسان تحت المجهر الطبي: اختزال الوجود إلى أعراض
من خلال التشخيصات النفسية، يُختزل الإنسان إلى مجرد مجموعة من الأعراض، مما يؤدي إلى تهميش الجوانب العاطفية والاجتماعية في فهم معاناته.
الحزن، على سبيل المثال، الذي يُعد جزءًا طبيعيًا من تجربة الإنسان، يُصنف في كثير من الأحيان كاضطراب اكتئابي، ويُعطى العلاجات الطبية اللازمة، هذه النظرة لا تعترف بأن الحزن يمكن أن يكون رد فعل طبيعي لظروف اجتماعية أو ثقافية معينة، بل يُعامل كاضطراب يجب القضاء عليه بواسطة الأدوية أو العلاج النفسي.
ميشيل فوكو في كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” يبين كيف أن تاريخ الطب النفسي قد ساهم في تحويل المعاناة النفسية إلى ظاهرة طبية، وبالتالي فقد تم تهميش التصورات الإنسانية حول الألم النفسي، هذه التصورات لم تعد تُعتبر ذات قيمة، بل تم استبدالها برؤى طبية مادية.
التشخيص النفسي: طوق نجاة أم فخ ثقافي؟
إحدى القضايا المثيرة التي يناقشها برينكمان هي التأثيرات الثقافية لهذه النظرة الطبية التي تحوّل الإنسان إلى مجرد حالة قابلة للتشخيص، إن الاعتماد المفرط على التشخيصات النفسية يمكن أن يعزز من فكرة “الضحية”، بحيث يُنظر إلى الأفراد الذين يمرون بتجارب عاطفية أو نفسية كأشخاص يحتاجون إلى علاج، مما يقوّض قدرتهم على معالجة مشاكلهم بأنفسهم أو من خلال التفاعل الاجتماعي. أنثوني غيدنز في كتابه “الحداثة والذات” يناقش هذه الظاهرة، موضحًا كيف أن المجتمعات الحديثة قد تحول الأفراد إلى كائنات بحاجة إلى العلاج، وبالتالي يتم تقويض قدرتهم على التكيف مع التحديات اليومية.
الحاجة إلى إعادة تعريف معاناتنا: من التشخيص إلى الفهم الشمولي
في ظل هذه الأبعاد، يشير برينكمان إلى أن هناك حاجة لإعادة التفكير في كيفية تفسير معاناتنا. بدلاً من أن يُختزل كل شعور بالحزن أو القلق في قالب تشخيصي، يجب أن نبحث عن طرق لفهم هذه المعاناة في سياقات اجتماعية وثقافية أوسع، فمن غير المجدي أن نعتبر كل تجربة إنسانية ضمن نطاق المرض النفسي، بل يجب أن نعيد الاعتراف بأن المشاعر السلبية جزء من التجربة الإنسانية التي تتطلب معها التعامل بشمولية.
يشير العديد من المفكرين إلى أهمية إعادة النظر في التصورات الحديثة للتشخيصات النفسية، وذلك بالتركيز على السياقات الاجتماعية التي تسهم في تشكيل التجارب النفسية، إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” يسلط الضوء على أهمية النظر إلى الإنسان في سياقاته الثقافية والاجتماعية، بعيدًا عن الفهم الطبي الذي قد يحدّ من تقدير هذه التجارب.
العودة إلى إنسانيتنا
كما يشير برينكمان في ختام أطروحته، إننا بحاجة إلى العودة إلى رؤية أعمق للإنسان بعيداً عن اختزاله في مجمل الأعراض النفسية، يجب أن نعيد التأكيد أن المعاناة النفسية ليست مجرد حالة طبية، بل هي تجربة غنية بالمعاني يمكن أن تتأثر بالظروف الثقافية والاجتماعية؛ لذلك، من الضروري أن نتبنى فهمًا أكثر شمولية للإنسان يعترف بأبعاده الوجودية والاجتماعية، مع إيمانٍ بأن الإنسان لا يُختصر إلى مجرد مريض يحتاج إلى علاج.
إن القبول بالمعاناة الإنسانية كجزء من الحياة الطبيعية دون اختزالها إلى مجرد أعراض طبّية يمثل خطوة نحو إعادة فهم أعمق للذات الإنسانية في عالم أصبح فيه التشخيص النفسي أداة محورية.
المراجع:
Brinkmann, S. (2006). Diagnostic cultures: Psychiatry in the modern age. Netherlands: Exis Foucault, M. (2005). Histoire de la folie à l’âge classique. Paris: Gallimard Goldman, I. (1987). Psychiatry and social philosophy. Journal of Medicine and Philosophy, 15(3), 35-50 Giddens, A. (1991). Modernity and self-identity. Cambridge, UK: Polity Press. Said, E. W. (1978). Orientalism. New York: Pantheon Books |