الذاكرة البشرية: بين فقدان الذكريات القديمة والعجز عن صنع ذكريات جديدة

ماذا لو كنا أمام خيارين: أن نفقد ذكرياتنا أو أن نصبح عاجزين أصلاً عن صنع ذكريات جديدة؟

لعل ذكرياتنا هي أهم ما نملك في حياتنا فهي مليئة بالتجارب والقصص، من جهة أخرى أليس بعض تلك الذكريات هو ما يغذي مخاوفنا ويجعلنا نخشى أن نتابع مسيرتنا؟!

في إحدى المقابلات طرح المذيع سؤالاً على ضيفه: هل تفضل أن تفقد كل ذكرياتك، أم أن تعجز عن صنع ذكريات جديدة إلى الأبد!؟

للوهلة الأولى توقف عقلي عن التفكير. فهذا السؤال يتطلب استيعاباً عميقاً وبحثاً في مستودع الذكريات لمعرفة أي الخيارين أسهل للتضحية به. دعونا نناقش بعض النقاط ليتسنى لنا معرفة الخيار الأقل ضرراَ.

أولاً: فقدان الذكريات القديمة:

لتحليل هذا الخيار، يجب أن نفكر في بعض الدوافع التي قد تجعل منه خياراً مقبولاً، يبدو الأمر وكأننا أمام خيارين: “الاستغناء” أو “التخلي”، ولكن ما الفرق بينهما؟

سؤال آخرعميق!، “الاستغناء” و”التخلي” كلمتان متقاربتان في المعنى، لكن بينهما فروق دقيقة مهمة من حيث الدلالة والسياق، وقد استعنت بالذكاء الاصطناعي ككاتب مشارك في كتابتي هذه للتفريق بينهما كما هو موضح أدناه:

الاستغناء:

يعني أنك لا تحتاج إلى الشيء أو الشخص بعد الآن، وأنك وجدت ما يعوضه أو أصبحت في وضع أفضل بدونه، هناك شعور بالاقتدار والاكتفاء الذاتي، وحسب قاموس المعاني الجامع: الْاِسْتِغْنَاء: كلمة أصلها (اِسْتِغْناء) في صورة مفرد مذكر وجذرها (غني). (موقع قاموس المعاني، 2025)

وعند الاستعانة بالذكاء الاصطناعي (ChatGPT) أشار لما يأتي من حيث دلالة الاستغناء والأمثلة الموضحة:

الدلالة:

    • إيجابي في الغالب: يكون نتيجة قوة وليس ضعف.

    • الاختيار: أنت من تقرر أنك لا تحتاج هذا الشيء.

    • الاقتدار: يشير إلى وجود بديل أو غنىً عن الشيء المُستغنى عنه.

    • نتيجة تطور طبيعي: كالتخلي عن عادة قديمة لأنك تطورت ونضجت.

أمثلة:

  • استغنيت عن سيارتي القديمة واشتريت واحدة جديدة. (هنا يوجد بديل أفضل)

  • استغنى عن مساعدة الآخرين بعد أن تعافى. (أصبح قوياً وكفؤاً بنفسه)

التخلي:

يعني ترك الشيء أو الشخص والابتعاد عنه، ولكن قد يكون هذا الترك باختيارك أو رغماً عنك، وقد يكون لسبب إيجابي أو سلبي، ولا يحمل بالضرورة معنى القوة أو الاقتدار، وحسب قاموس المعاني الجامع: التَّخَلِّي: كلمة أصلها (تَخَلِّي) في صورة مفرد مذكر وجذرها (خلل). (موقع قاموس المعاني، 2025)

وعند الاستعانة بالذكاء الاصطناعي (ChatGPT) أشار لما يأتي من حيث دلالة التخلّي والأمثلة الموضحة:

الدلالة:

    • محايد أو سلبي في كثير من الأحيان: يمكن أن يكون قراراً صعباً أو مؤلماً.

    • السبب: يمكن أن يكون بسبب العجز، أو الفشل، أو الواجب الأخلاقي، أو كجزء من تضحية.

    • لا يشترط وجود بديل: قد تتخلى عن شيء دون أن يكون لديك بديل عنه.

    • يشمل المعنوي والمادي: غالباً ما يرتبط بالعلاقات والقيم والمسؤوليات.

أمثلة:

    • تخلّى الأب عن ابنه لأنه لم يستطع تحمل مسؤوليته.(دلالة سلبية على العجز أو عدم المسؤولية)

    • تخلّيت عن حلمي في أن أصبح طبيباً بسبب. (الظروف المادية رغماً عني)

    • تخلّى الجيش عن المنطقة ليعيد تجميع قواته.(قرار تكتيكي، ليس لأنه لا يحتاجها بل لإستراتيجية أعلى).

يمكننا القول: إن الاستغناء هو التخلي عن شيء عن قوة واقتدار لأنك ببساطة لا تحتاجه.

التخلي هو ترك شيء قد تحتاجه أو لا تحتاجه، ولكن لأسباب تتجاوز مجرد عدم الحاجة (كالعجز أو التضحية).

وهنا نعود لسؤالنا الذي طرحناه فإن كانت ذكرياتك القديمة أمراً مهمًا لك فأنت ستجد حتماً صعوبة في التخلي عنها، فهي تحدد من تكون وهويتك وإنجازاتك كلها تتموضع في ذكرياتك، أما إن كان في تلك الذكريات بعض الآلام كخسارة شخص عزيز أو صدمات كبيرة كالحروب والأسى فقد تجد الأمر منطقياً أن تستغني عنها، ولكن هل ستكون مستعداً لفقدان كل الذكريات الخاصة بألمك؟ هل تريد أن تستغني عن ذكرى وجود الشخص العزيز؟ أم فقط الألم المصاحب لذاك الفقدان، وهنا نجد أنفسنا أمام أمر آخر وهو الذاكرة الشعورية الناجمة عمّا حدث لنا، فقد يكون من الأسهل التخلي عن ذاك الجزء مقارنةً بفقدان تام لكل محتوى ذاكرتنا.

ضمن هذا الخيار علينا أن نتخيل أن الشخص قد قام بتصفير سجل ذكرياته (إعادتها إلى الصفر) ليبدأ منذ لحظة القرار بتخزين ذكرى جديدة في كل يوم، فهو غير مطارد بعد الآن من ماضيه ولكن سيكون لديه ذكريات جديدة قد تصبح ماضياً في يوم ما وتطارده، فالأم قد ترفض أن تنسى تفاصيل أطفالها الذين قضت معهم الكثير حتى أصبحوا كباراً.

وفي أحد الآراء تقول الباحثة آبيغيل:

“ماضيك ليس هويتك؛ نعم، إنه جزء من تاريخك، وجزء من شخصيتك، لكنه ليس أنت، تجاربك تعكس أجزاء من نفسك، تحدث الأشياء لكن الطريقة التي تحدث بها، وطريقتها الفريدة في تقديم نفسها، يتم تلوينها من قبل كل شخص على حدة، أنت تضع بصمتك الخاصة على الطريقة التي تحدث بها الأحداث، هويتك هي جزء من مستقبلك كما هو الحال مع ماضيك، عندما تظل غارقًا في الماضي فإنك تمنع نفسك من العيش في الحاضر والعيش في غدك” (Brenner, 2020)

فهل حقاً من السهل أن نبني هويتنا وتكون مشابهة لما تركناه من مخزون؟ هل ما حدث لنا هو ليس ما شكّلنا؟

لنأتي إلى الشق الثاني من السؤال الذي بدأنا به المقالة وهو:

ثانياً: العجز عن صنع ذكريات جديدة أبداً:

سنحيا في هذا الخيار على ذكرياتنا الفائتة فقط ونكوّن في كل يوم جديد ذكريات جديدة ستمحى في اليوم التالي حتى نهاية حياتنا، أستطيع أن أفهم أن شخصاً قد يضطر إلى هذا الخيار عندما يكون لديه ذكرى لا يود نسيانها، وأن شخصاً قد فقده ولكن لا يرغب بنسيان تفاصيل قد عاشاها معاً أو ذكريات عن إنجازات لا يود أن يتخطاها إذ أضحت جزءاً من هويته.

بهذه الطريقة سيتوقف الشخص عند اليوم الذي بدأ فيه باختياره لتوقف تكوين ذكريات جديدة ويعيش بقية حياته منذ الولادة حتى يوم القرار، هو يجتر ذكريات الماضي يومياً، ويعد الشخص ميتاً حيث لا جديد ولا جدوى من كل يوم جديد يعيشه، إذ لا جديد في حياته.

ولكن لنتوقف هنا قليلاً ونفكر، كم من الأشخاص الذين نجدهم توقفوا عن صنع ذكريات جديدة ويعيشون على أطلال الماضي حيثما أرادوا التحدث عن أنفسهم، البعض يبدأ بتكرار نفسه في كل يوم كما لو أن الحياة توقفت عنده في لحظة معينة، ألا يعد هذا الشخص بأنه اختار الخيار الثاني وتوقف عن تكوين ذكريات جديدة، لا بل هو واعٍ لذلك وهذا أشد إيلاماً.

والآن إذا توقفنا عند هذا السؤال وخطينا خطوة للوراء وفكرنا، ما الهدف ولماذا نحن هنا؟ ألم نأتي للحياة لجمع اللحظات الجميلة في ألبوم روحنا؟ حسناً لماذا بدلاً من أن نقدر الحياة فإننا نصرف الوقت في تقييم الأمور بلا جدوى، فالحياة ستمضي كلحظة ولا نعرف متى يتوقف قلبنا عن النبض.

من ناحية أخرى فإننا لا نستخدم كل ذاكرتنا في كل الأوقات، لا بل إن بعض العلماء بدأوا التحدث عن فوائد استخدام النسيان للمضي قدماً، أي أن نرمي بعض ذكرياتنا حيث تساعدنا القدرة على النسيان على تحديد الأولويات والتفكير بشكل أفضل واتخاذ القرارات وأن نكون أكثر إبداعاً.    (Cantor, 2021)

وقد تكون هذه إحدى آليات دماغنا للتخلص من شوائب وآثار الذاكرة التي تؤثر على طباعنا، ثم إن النسيان يفيد قدراتنا المعرفية والإبداعية، ورفاهيتنا العاطفية، وحتى صحتنا الشخصية والمجتمعية. (Small, 2021)

نحن دائماً مشغولون وفي لحظة الوداع فقط نفهم كل شيء.

في النهاية علينا أن نعترف أن هذا سؤال عميق ومحير حقاً، وكل خيار يحمل ثقله وتحدياته.

بعد التفكير، أعتقد أن معظم الناس سيفضّل فقدان كل الذكريات القديمة على عدم القدرة على صنع ذكريات جديدة.

للأسباب الآتية:

النمو والتطور: لعل ما يجعلنا على قيد الحياة هو قدرتنا على النمو والتعلم، إلا أن عدم قدرتنا على صنع ذكريات جديدة سيستتبع بفقدان القدرة على التعلم ومواكبة مستجدات الحياة اليومية، سنغدو عالقين في يوم واحد يتكرر يومياً، في حين فقداننا للذكريات القديمة، على الرغم من مأساوية هذا الخيار فإنه يترك الباب مفتوحاً أما البدء بحياة جديدة وعلينا أن نتذكر بأننا لن نتذكر ما خسرناه.

الهوية (من نكون): هويتنا ليست فقط مجموعة الأحداث التي اختبرناها في الماضي، بل أيضاً ما نريده ونطمح له في المستقبل، فقدان ذكرياتنا قد لا يمحو شخصيتنا على تصوري الشخصي، فقد نبقى مزاجيون أو كسالى، وقد يعطينا الفرصة لبدء لوحة جديدة بالتعامل مع هويتنا من جديد، أما في حال عدم قدرتنا على تكوين ذكريات جديدة فقد يجمد هويتنا عند مرحلة محددة، ويمنع التطور والتغيير كما ذكرنا سابقاً.

العبء على المحيطين: سيكون من الصعب جداً على الأحباء التعامل مع شخص لا يتذكرهم أبداً، لكن مع الوقت، يمكنهم بناء علاقة جديدة معنا، بينما سيكون العبء هائلاً وغير محتمل على من يحبون شخصاً لن يتذكر أبداً اللحظة التي قضاها معهم قبل دقائق، وسيتعين عليهم إعادة تعريف أنفسهم كل يوم، ولكن قد يكون هذا خياراً لدى البعض مقارنة بخسارة الشخص كلياً.

لماذا يعد الخيار الآخر مقنعاً؟
هناك وجهة نظر أخرى، فقدان الذكريات القديمة يعني فقدان كل ما يصنع هويتك، علاقاتك، دروس الماضي، ذكريات الطفولة، كل لحظة حب أو فرح أو حزن شكّلتك، إنه فقدانٌ لا يُعوّض للذات، بعض الناس قد يفضلون الاحتفاظ بمن هم عليه الآن، حتى لو تخلوا عن العيش في الماضي.

لكن في النهاية، القدرة على المضي قدماً وخلق معنى جديد هو جوهر الحياة، الخوف من أن نكون سجناء لحظتنا الحالية بدون مستقبل هو الأكبر، سواء أخسرنا ماضينا أو مستقبلنا فإن هذا يضعنا أمام الامتنان، الامتنان لخبرتنا الحالية، التي من خلالها نملك الحرية الكاملة لاختيار ما نركز عليه، تماماً مثلما أمتلك الحرية في سرد رأيي الشخصي للإجابة عن السؤال في هذه المقالة.

المراجع:

Brenner, A. (2020, December 25). 5 Reasons Why It’s Important to Let Go of the Past. Www.psychologytoday.com. https://www.psychologytoday.com/us/blog/in-flux/202012/5-reasons-why-its-important-let-go-the-past

Cantor, C. (2021, July 28). Why Forgetting is Good for Your Memory. Columbia University Department of Psychiatry. https://www.columbiapsychiatry.org/news/why-forgetting-good-your-memory

Small, S. A. (2021). Forgetting: the benefits of not remembering. Crown.

المواقع والذكاء الاصطناعي:

موقع قاموس المعاني

موقع (ChatGPT)

Facebook
Twitter
WhatsApp