الجانب الإنساني في العلاج النفسي المرتكز على الشخص

في عالم يركّز أحيانًا على الجوانب التقنية للتشخيص والعلاج النفسي، يذكّرنا كارل روجرز بأنَّ الإنسانية التي يجلبها المعالج إلى الجلسة تشكّل العمود الفقري لنجاح أي عملية علاجية، فقبل أن يكون المعالج خبيرًا في النظريات أو التقنيات، يجب أن يكون إنسانًا قادرًا على التعاطف والتقبّل والأصالة مع عميله، تبنّيًا لمنهجه الإنساني الذي أسسَه ويطوّره هذا النهج منذ أكثر من مئة عام (Corey, 2013).
الأساس النظري للمنهج الإنساني عند كارل روجرز:
يرتكز العلاج المرتكز على الشخص على ثلاثة شروط أساسية لتحقيق التغيير الذاتي عند المريض:
الأصالة :(Congruence) قدرة المعالج على أن يكون صادقًا وحقيقيًا في تفاعله، دون أقنعة مهنية جامدة. (Rogers, 1957)، كما ورد في(Corey, 2013).
التقبّل الإيجابي غير المشروط :(Unconditional Positive Regard) تقديم احترام كامل للعميل بغض النظر عن سلوكه أو أفكاره، مما يعزز شعوره بالأمان لاستكشاف ذاته بصدق (بلان، 2015).
التفهم التعاطفي :(Empathic Understanding) السعي نحو فهم تجربة العميل من منظوره الخاص، ثم نقل هذا الفهم إليه بوضوح ملموس (رضوان، 2012).
تُعد هذه الشروط «البيئة العلاجية المُحفزة»، إذ يؤمن روجرز أن وجودها وحدها يكفي لتحفيز نموّ العميل وتعديله السلوكي نحو الصحة النفسية (Corey, 2013).
  لماذا يكون المعالج إنسانيًا قبل أن يكون مختصًا؟
 1. بناء الثقة وتمكين الذات:
الإنسانية تسبق التقنية: عندما يشعر العميل بصدق المعالج وانفتاحه، تتكوّن رابطة قائمة على الثقة؛ وهذه الرابطة نفسها هي المحرّك الأهم لعملية العلاج، كما يؤكّد روجرز بأنّ علاقة الشخص-إلى-الشخص تفوق أيّ أسلوب تقني (Corey, 2013).
تمكين العميل:  

يعزّز التقبل غير المشروط شعور العميل بأنه صاحب القرار والمسؤول عن نموه، فتظهر لديه القدرة على اكتشاف الحلول ذاتيًا دون الاعتماد الكلي على المعالج (بلان، 2015).
 2. التغلب على التشخيص المفرط:
في عصرٍ تُختزل فيه معاناتنا إلى تسميات تشخيصية، يأتي المنهج الإنساني ليردّ تأكيدًا على أن المشاعر لا تقتصر على أعراض مرضية فحسب، بل هي جزء طبيعي من التجربة الإنسانية (العاسمي، 2015).
فالمعالج الإنساني لا يرى في الحزن أو القلق اضطرابًا يحتاج فحسب إلى علاج، بل يراها بوابة لفهم أعمق للعميل بكامل أبعاد وجوده.
3  انعكاسات إنسانية المعالج على العملية العلاجية
 1. تعزيز النمو الشخصي المستدام:
يحرص المنهج الإنساني على تنمية القدرة الداخلية للعميل على مواصلة التغيير بعيدًا عن الجلسة العلاجية. فالمعالج هنا ليس مُنقِذًا يقود العميل خطوة بخطوة، بل هو ميسّر يوفّر البيئة المناسبة لانطلاق إمكانات العميل الذاتية نحو التماسك النفسي وتكامل الذات (Corey, 2013).
2. مواجهة التعقيدات العاطفية:
من خلال التعاطف الفعّال، يساعد المعالج العميل على تفريغ المشاعر السلبية وفهمها، ثم عكسها وتوضيحها بطرق تفتح أمامه آفاقًا جديدة لرؤيته الخاصة لنفسه وللآخرين، مما يخفف من شدّة المعضلات النفسية ويقوي قدرته على التعامل معها (رضوان، 2012).
  الدعم العلمي للبعد الإنساني في الممارسة العلاجية
تشير الدراسات الحديثة إلى أن العوامل المشتركة في العلاقة العلاجية – خاصة الأصالة والتعاطف – تسهم بنسبة تصل إلى 30% من فعالية العلاج النفسي (Norcross & Lambert, 2018). في هذا الإطار، تبرز عدة نقاط علمية:
أظهرت الأبحاث أن لحظات اللقاء الإنساني الأصيل بين المعالج والعميل تُحدث تحولاً علاجيًا يفوق في بعض الأحيان تأثير التقنيات المنهجية (Knox & Hill, 2003). هذه اللحظات، التي يصفها البعض بـ”اللقاءات الشخصية العميقة”، تعزز التحالف العلاجي وتقلل من مقاومة العميل.
المشاركة الإنسانية المدروسة للمعالج (بما في ذلك الاستخدام المنضبط للإفصاح الذاتي) يمكن أن تكون أداة علاجية فعالة عندما:
1. تكون موجزة وهادفة لخدمة احتياجات العميل
2. لا تحوّل التركيز عن العملية العلاجية
3. تتماشى مع السياق الثقافي للعميل
التطبيقات العملية: توصيات قائمة على الأدلة
بناءً على أحدث الدراسات، يوصي الباحثون بما يلي:
الموازنة الذكية: بين الأصالة الإنسانية والحدود المهنية الواضحة
التكيف مع الاحتياجات: تعديل درجة المشاركة الإنسانية حسب:
1. طبيعة المشكلة
2. مرحلة العلاج
3. الخصائص الفردية للعميل
قدم Ruffalo (2024) تحليلاً لتجربة كارل روجرز العلاجية مع مريضة تظهر أعراض اضطراب الشخصية الحدية، اعتمد روجرز على مبدأ “القبول غير المشروط” دون تشخيص دقيق، مما أدى إلى تطور سلبي للحالة حيث تجاوزت المريضة الحدود المهنية، ما اضطر روجرز لاحقاً لوقف العلاج. يؤكد المقال أن العلاج النفسي الناجح يتطلب فهماً عميقاً لكل حالة على حدة، بعيداً عن التطبيق الحرفي للنظريات.

إنّ إنسانية المعالج ليست رفاهية زائدة أو ترفًا نظريًا، بل هي جوهر فاعلية العلاج النفسي المرتكز على الشخص، حين نكون صادقين ومتقبّلين ومتفهّمين، نمنح العميل المساحة اللازمة لاكتشاف ذاته ومعالجة مشكلاته من جذورها.
وهكذا، يتّضح أنَّ نجاح العلاج لا يقاس بالوصفات التقنية وحدها، بل بمدى الحضور الإنساني الحقيقي الذي يقدّمه المعالج في علاجه

قائمة المراجع
بلان، كمال. (2015). نظريات الإرشاد والعلاج النفسي. دار الإعصار العلمي.
رضوان، سامر. (2012). إدارة الجلسة المتمركزة حول المتعالج. دار الكتاب الجامعي.
العاسمي، رياض. (2015). الإرشاد المتمركز حول الشخص بين الخبرة ومفهوم الذات. دار الإعصار للنشر والتوزيع.

المراجع الأجنبية:
Corey, G. (2013). Theory and practice of counseling and psychotherapy (9th ed.). Cengage Learning.
Ruffalo, M. L. [@MarkLRuffalo]. (2024, April 15). Analysis of Carl Rogers’ therapeutic approach… [Tweet]. Twitter. https://x.com/MarkLRuffalo/status/1878478477545857421

Facebook
Twitter
WhatsApp