الذات بين السوق والمعنى: تأملات في كتاب: (Stand Firm: Resisting the Self-Improvement Craze) للكاتب: Svend Brinkmann
تتردد في أروقة الوعي الجمعي، كتعويذة مُلحّة، شعاراتٌ براقة تدعو إلى صعودٍ دائم نحو “أفضل نسخة من الذات”، “لا تتوقف عن التطور”، “ضع أهدافك وسِرْ قُدُمًا”…
هذه النداءات، التي تغزو فضاءات ما يُسمى بالتنمية البشرية والتحفيز السريع، تُعيد تشكيل ملامح الإنسان المعاصر ليغدو كائنًا مُطالَبًا أبداً بالتحسين، أسيرًا لوَهْمِ الكمال المُستحيل، في هذا السياق الزمني الذي تستبد به ثقافة “إعادة هندسة الذات”، يبرز صوت الكاتب الدنماركي سفيند برينكمان أستاذ علم النفس والفلسفة بجامعة آلبورغ في الدنمارك، من خلال كتابه اللافت للنظر “الثبات: مقاومة هوس أو جنون تطوير الذات”، كناقد مُفكر، وكوقفة تأملية ضرورية.
يرفع برينكمان راية النقد في وجه هذا التيار الجارف، الذي قد يبدو في الظاهر نبيلًا الغاية، لكنه – في عمق تحليله النفسي – يُخفي تحت عباءته نزعة استهلاكية وفردانية مُقلقة. هذه النزعة تُحوّل الإنسان إلى سلعة دائمة التحديث، حبيس قفص ذهبي من التزامات التحسين المُستمِر والتغيير الذي لا يعرف الهدوء.
من خطاب “المساعدة الذاتية” إلى مأزق “الأنا المتضخمة”: رؤية نفسية مُعمّقة
يُشير برينكمان بتبصّر إلى أن الهوس بتحسين الذات لم يعد مجرد موضة ثقافية عابرة، بل تحوّل إلى نسق تفكير مُتجذر يستعمر تفاصيل حياتنا اليومية، إنه خطاب يُعيد تعريف الكينونة الإنسانية، مُنتزعًا الفرد من نسيجه الاجتماعي المُترابط، ليُلقي به في غياهب التركيز المرضي على الذات، يصبح الإنسان كيانًا مُستغرقًا في ترميم صورته الداخلية، مُتجاهلًا البنى الاجتماعية المُحيطة، والأبعاد الأخلاقية التي تتطلب التزامًا وثباتًا في العلاقات والمسؤوليات.
يُفكّك برينكمان، بعين الباحث النفسي المُتفحص، الأساطير المُقدّسة لخطاب المساعدة الذاتية الحديث – مثل “كُن إيجابيًا على الدوام”، و”اتبع شغفك تفلح”، و”أنت وحدك مسؤول عن مصيرك” – مُعتبرًا إياها أدوات قسر نفسي تُحمّل الفرد أعباءً وجودية ثقيلة، هذه المقولات تُخضعه لمعايير نجاح وفشل فردية قاسية، دون أدنى اعتبار للتعقيدات الظرفية أو الهشاشة الوجودية التي تُميّز التجربة الإنسانية.
الفلسفة الرواقية كبوصلة للثبات النفسي في زمن التيه
يستلهم برينكمان، بوعيٍ عميق للتراث الفلسفي، مبادئ الفلسفة الرواقية، لا كتقنيات سطحية للتكيف، بل كدعوة جوهرية لليقين الداخلي، والثبات الانفعالي، وتقبّل حدود القدرة الإنسانية، إنها دعوة للتركيز على الواجب الأخلاقي، وأداء الدور المنوط بنا بكرامة وهدوء، في مواجهة صخب العالم وتقلباته.
يُقدّم في هذا السياق فصلًا بالغ الأهمية بعنوان “ضع لجامًا لمشاعرك”، لا يدعو فيه إلى قمع العواطف، بل إلى فهم طبيعتها المتقلبة وتقييد تدفقها الجامح، ويؤكد أن الحزن ليس علةً يجب استئصالها، وأن التشاؤم ليس خطيئة مُهلكة، وأن استحضار الماضي ليس عبئًا يجب التخلص منه؛ بهذا يُناهض برينكمان بجرأة الثقافة العلاجية السائدة التي تُسارع إلى تصنيف كل تجربة إنسانية مؤلمة كـ “اضطراب نفسي” يستدعي التدخل والإصلاح، مُتجاهلةً عمقها الوجودي وإمكانيتها للمعنى والنمو.
نقد بنيوي لسوق “الروح” و”الوعود الكاذبة”: منظور نفسي اجتماعي
يُبدي الكتاب شجاعةً لافتة في تفكيك السوق الضخم الذي ازدهر حول مُدّعي “الكوتشينغ” وورش “البرمجة اللغوية العصبية” والتدريبات التحفيزية السطحية، يرى برينكمان أن هذه الصناعة قد أنتجت ثقافة زائفة من الوصفات السريعة والحلول المُعلبة، مُبسّطةً بشكل مُخلّ قضايا النفس الإنسانية المعقدة، ومُقدّمةً وعودًا كاذبة بالرضا والسعادة الفورية، ويؤكد أن القبول الحقيقي للذات لا ينبع من تضخيم الأنا أو مطاردة السراب، بل من الاعتراف بالقيود الإنسانية، والالتزام بفضائل أساسية كالصدق والولاء والمسؤولية.
من مقاومة “الأنا المُتفخمة” إلى استعادة “الذات الأخلاقية”: بحث عن معنى أصيل
في صميم أطروحة برينكمان، يكمن نداء عميق لاستعادة “الذات الأخلاقية” في مواجهة “الذات الأدائية” أو “العلامة التجارية الشخصية”، الإنسان الذي تنفصل هويته عن منظومة قيم راسخة، والذي تُقاس قيمته فقط بمعيار إنتاجيته أو عدد الإنجازات المُدوّنة في سيرته الذاتية، هو إنسان مُعرّض لخطر الفراغ الوجودي، حتى وإن بدا “ناجحًا” وفقًا للمعايير السطحية.
هذا النمط من الذات – كما يُحلّله برينكمان – هو ذات قلقة، مُتوتّرة، مُنهكة، لأنها محكومة بمنطق السوق والتحديث المُستمِر، لا بمنطق المعنى أو الغاية الأسمى أو الواجب الإنساني، وفي المقابل يدعو إلى العودة إلى نموذج الإنسان الذي يتحمل مسؤوليته الأخلاقية حتى في لحظات الضعف والانكسار، والذي لا ينظر إلى المشاعر السلبية كعيوب يجب التخلص منها، بل كأدوات قيّمة لفهم الذات والارتباط الأصيل بالحياة.
أخلاقيات الثبات في عصر التسارع: دعوة إلى وعي نفسي مُقاوم
قد تبدو الدعوة إلى الثبات في زمن السرعة دعوة ارتجاعية للوهلة الأولى، لكن برينكمان لا يقف ضد التغيير بحد ذاته، بل ينتقد بشدة فكرة التغيير المُستمِر كغاية في حد ذاتها، خاصة عندما يستحوذ الهوس بالتطور الفردي على الإنسان بمعزل عن أي إطار قيمي أو إنساني أوسع.
في هذا السياق يدعو إلى ممارسة “الرفض الواعي”: رفض الاستهلاك النهم، رفض المقارنات المُستمِرة بالآخرين، رفض المقولات التسويقية التي تتلاعب بمشاعرنا، ورفض الخرافة القائلة بأن كل شيء مُمكن إذا “أردناه بشدة كافية”، وبدلًا من ذلك، يُشجع القارئ على قول “لا” عند الضرورة، وعلى الانضباط الذاتي، وعلى بناء حصن نفسي يحمي من غزو ثقافة التحفيز السطحي، مُؤكدًا أن “الرضا” الحقيقي عن الذات لا يُقاس بالنتائج الخارجية فحسب، بل بالانسجام مع القيم التي نؤمن بها.
سبع قواعد للثبات النفسي في عالم مُتغيّر: رؤى مُستنيرة
يُقدّم برينكمان في أحد أبرز فصول الكتاب ما يُسمّيه “سبع قواعد لتكون إنسانًا ثابتًا في عالم مهووس بالتحوّل”، وهي قواعد تتحدى بشكل مباشر خطاب تطوير الذات المُعاصر، وتُقدّم رؤية مُغايرة للنمو النفسي:
- قِف مكانك بدلًا من اللهاث الدائم نحو الأمام: دعوة للتأمل في اللحظة الراهنة وتقدير ما هو موجود.
- لا تُنصت لنفسك دائمًا: تحذير من الانقياد الأعمى للمشاعر المتقلبة.
- ركّز على السلبيات أحيانًا: إدراك أهمية الألم في النمو والفهم.
- اكبت مشاعرك عند اللزوم: ممارسة ضبط النفس كشكل من أشكال التماسك الداخلي.
- اقرأ رواية لا سيرة مُلهمة: تقدير قوة الخيال والأدب في فهم التعقيد الإنساني.
- تجنّب التقييم الذاتي المُستمِر: التحرر من الحاجة الدائمة للتحسين والتقييم.
- تأمّل في الموت: تمرين وجودي على تقبّل الحدود الإنسانية وإدراك قيمة الحياة.
هذه القواعد ليست وصفات جاهزة، بل دعوات مُعمّقة إلى نمط تفكير بديل يرفض الهوس بالذات، ويحتفي بالبساطة، والديمومة، والمسؤولية الأخلاقية.
ملاحظات نقدية: حدود الثبات النفسي وضرورة السياق الاجتماعي
على الرغم من أهمية الطرح وعُمقه، قد يشعر القارئ أحيانًا بأن برينكمان يُحمّل الفرد مسؤولية الرفض دون تقديم بدائل اجتماعية واضحة؛ فالثبات النفسي – وإن كان ضروريًا – لا يمكن ممارسته بمعزل عن سياق داعم، أو بيئة لا تُعاقب الاختلاف، أو مؤسسات لا تُكرّس منطق الأداء الدائم.
كما أن الخط الفاصل بين “الثبات” و”الجمود” قد يكون مُلتبسًا للبعض، خاصة إذا لم يُقرن بالمرونة النفسية اللازمة للتكيف مع الواقع المُتغيّر دون الانصياع الأعمى له.
مع ذلك، يظل صوت برينكمان صوتًا نادرًا وثمينًا في زمن يعج بدعاة التغيير السطحي، ويُشكّل إضافة نوعية لما يمكن تسميته بـ “أخلاقيات البطء” في عصر التسارع الجنوني.
أن تكون إنسانًا لا مشروعًا قيد التنفيذ: دعوة إلى سلام داخلي أصيل
ليس الهدف من نقد برينكمان هو تبرير الكسل أو العجز، بل إعادة تعريف مفهوم النجاح، وتحرير أنفسنا من أسر العبارات البراقة، وإعادة ربط الذات الفردية بالواقع الأخلاقي الأوسع.
أن تكون إنسانًا حقيقيًا يعني أحيانًا أن تتوقف، أن تحزن، ألا تعرف الإجابات، وأن تُخطئ دون الشعور بالذنب الوجودي، يعني ألا تنظر إلى نفسك كمشروع دائم التطوير، بل ككائن يسير في الحياة بما أمكن من صدق، والتزام، ومسؤولية.
إن كتاب “الثبات أو كن ثابتًا” ليس مُضادًا للنمو النفسي، بل هو نداء للاستقرار والانسجام الداخلي في زمن التقلّب، وهو تذكير نادر وقيم بأن الثبات في بعض الأحيان، هو أعمق وأهدأ أشكال النمو النفسي نضجًا.
المراجع:
Brinkmann, S. (2017). Stand firm: Resisting the self-improvement craze. Polity Press
Illouz, E. (2008). Saving the modern soul: Therapy, emotions, and the culture of self-help. University of California Press
Rose, N. (1999). Governing the soul: The shaping of the private self (2nd ed.). Free Association Books