تحمل الحياة لنا مفاجآت كثيرة، ومفاجآت الحياة تظهر في مواقف؛ مواقف سعيدة، مواقف حزينة، مواقف محرجة، مواقف مطَمئنة، ومواقف مربكة، وغير ذلك…
هل تجد نفسك تعطي وعودًا كثيرة لنفسك وللآخرين عندما تكون سعيدًا في مزاجٍ جيّد ثمّ تجدها صعبة وفيها مبالغة؟!
هل تنفعل على أبنائك وتعنّفهم تجاه أيّ سلوك مزعج، وثم عند تندم في الليل وتشعر بالذنب حيال تلك العيون البريئة النائمة لأن الموقف لا يستحق ذلك الانفعال الشديد؟!
إنّ العواطف الهائجة تتعب صاحبها أيّما تعب، وتضنيه وتؤلمه وتؤرّقه، فإذا غضب احتدّ وأزبد، وأرعد وتوعّد، وثارت مكامن نفسه، والتهبت حشاشته، فيتجاوز العدل، وإن فرح طرب وطاش، ونسيَ نفسه في غمرة السّرور وتعدّى قدره، وإذا هجر أحدًا ذمّه، ونسي محاسِنه، وطمس فضائله، وإذا أحبّ آخر خلع عليه أوسمة التبجيل، وأوصله إلى ذروة الكمال. (القرني، 2004، ص. 74)
هذه المقالة ستساعدك على فهم مشاعرك، وكيفية إبداء ردة فعل مناسبة لكل موقف تمر به دون استنزاف طاقتك.
التنظيم الانفعالي:
هو العمليّات والأساليب والاستراتيجيّات التي يستخدمها الفرد بهدف حفظ توازنه الانفعالي، والتحكّم في انفعالاته وتعديلها بما يتناسب مع الموقف الانفعالي أثناء تعرّضه لمواقف الخطر والتهديد. (نصار، 2018، ص. 16)
أهميّة التنظيم الانفعالي:
يؤدّي التنظيم الانفعالي دورًا مهمّا في النمو الانفعالي للفرد فهو يتيح للفرد التحكّم في سلوكه وإدارة الانفعالات التي تصدر عنه تجاه الأحداث، ويجعله يستجيب بمرونة تجاه الأحداث البيئيّة المؤلمة والضاغطة، كما أنّ له دورًا كبيرًا في التوافق النفسي والعلاقات الاجتماعيّة، وأداء العمل وإثراء الحياة الانفعاليّة، والنظرة إلى الحياة نظرة إيجابيّة، والتمتّع بالصحّة النفسيّة والثقة بالنفس، في حين أن قصور تنظيم الانفعال يؤدي اضطرابات ومشكلات نفسيّة مختلفة منها الأليكسيثيميا، والقلق والاكتئاب، واضطراب ضغوط ما بعد الصدمة، واضطرابات الإدمان، واضطرابات الأكل، والاضطرابات الوجدانيّة، والاندفاعيّة والتسرّب الدراسي والجريمة والجنوح، والعنف، وانحراف السلوك، والبدانة، والمقامرة والتدخين. (مظلوم، 2017، كما ورد في بلية، 2025، ص. 13-14)
نظريّة جيمس جروس للتنظيم الانفعالي:
أجرى جروس، صاحب نظريّة التنظيم الانفعالي، أبحاثًا متعدّدة حول هذا الموضوع، حيث عرّف التنظيم الانفعالي بأنّه “الاستراتيجيّات الشعوريّة واللا شعوريّة التي يستخدمها الفرد لزيادة أو تقليل أو الحفاظ على مكوّنات الاستجابة الانفعاليّة”، ويميز جروس بين ثلاثة مكوّنات رئيسيّة للاستجابة الانفعاليّة وهي: مكوّن الخبرة، الذي يتضمّن المشاعر الذاتيّة للفرد استنادًا إلى خبراته الحياتيّة، والمكوّن السلوكي الذي يشمل الاستجابات السلوكيّة التي يعبّر بها الفرد عن مشاعره، بالإضافة إلى المكوّن الفيسيولوجي، الذي يتضمّن الاستجابات الفيزيولوجيّة مثل توتّر الشعر، وتغيّرات ضغط الدم، وسرعة ضربات القلب. (مرعي، 2019، كما ورد في بلية، 2025، ص. 21)
استراتيجيّات التنظيم الانفعالي:
استراتيجيّات التنظيم الانفعالي هي تلك الاستراتيجيّات التي يستخدمها الفرد لتغيير الخبرة التي يعيشها والتي يتصرّف بها أو يقوم باستخدامها للتعبير غن انفعالاته من حيث الشدّة والقوّة، وتتضمّن هذه الاستراتيجيّات عمليّة تكيف أو تغيير تهدف إلى الحفاظ على المشاعر الإيجابيّة أو زيادتها مثل استراتيجيّة إعادة التقييم المعرفي للانفعالات، وأخرى لا تكيفية تتعلق بالاستجابة وضعف تمييز المشاعر الإيجابيّة أو التعبير عنها ومنها ما يتعلق بقلّة الخبرة لديه. (دخان، 2024، ص.12)
وقد حدّد جروس (Gross,2014) أصنافًا لاستراتيجيّات التنظيم الانفعالي، على النحو الآتي:
استراتيجيّة التركيز المسبق :(Antecedent-Focusted Strategies) والتي تحدث فيها التغيّرات المعرفيّة التي يقوم بها الفرد في حالة الاستعداد للاستجابة وقبل تفعيل الاستجابة الانفعاليّة، وتتضمّن عدّة طرق واستراتيجيّات لتنظيم الانفعالات، منها:
١. استراتيجيّة اختيار الموقف:
هي العمليّة التي يتمّ خلالها اختيار الموقف المرتبط بانفعالات محدّدة، ويتضمّن الاقتراب المقصود من المواقف التي تتماشى مع حاجة الفرد، والتي يعتقد الفرد أنها تؤدّي إلى انفعالات سلبيّة أو إيجابيّة، وتجنّب المواقف التي يعتقد الفرد أنّها تؤدّي إلى انفعالات غير مرغوبة من أجل تنظيم الانفعالات. (دخان، 2024، ص.15)
٢. استراتيجيّة تعديل الاستجابة:
تحديد السلوكيّات المرتبطة بالموقف والتي تتماشى مع حاجة الفرد إظهار انفعالات محدّدة، لتعديل الانفعالات المرتبطة، وربّما لا يمكن تجنّب المواقف المزعجة أو غير السارّة، وعندما يكون الوضع على هذا النحو سيكون لدى الفرد خَيار تعديل الموقف المثير للانفعال من أجل تغيير أثره الانفعالي السلبي. (دخان، 2024، ص.16)
3. استراتيجيّة تحويل الانتباه:
توجيه انتباه الفرد إلى مثيرات الانفعال وصرف الانتباه عنها بما يؤثّر على درجة الانفعال فعندما يجد الفرد نفسه في موقف من المرجّح أن يثير استجابة انفعاليّة سلبيّة يمكنه تغيير محور الانتباه من خلال صرف الانتباه وعدم التركيز على الجوانب الانفعاليّة ومحاولة تركيز الانتباه على نشاط بديل غير انفعالي. (دخان، 2024، ص.16)
4. استراتيجيّة إعادة التقييم المعرفي:
تغيير الطريقة التي يفكّر بها الفرد في الموقف المثير للانفعال؛ من أجل تعديل أثره الانفعالي وتشمل تغيير وإعادة صياغة طريقة تفكير الفرد حول الموقف لتقليل تأثيره الانفعالي السلبي. (دخان، 2024، ص.17)
في البداية من الممكن أن يكون تطبيق الاستراتيجيات صعبًا جدًا، ولتسهيل ذلك يمكننا تخيّل أن الموقف هو مجرّد مشهد تصويري من فلم أو مسلسل (لن يطول مجرّد لحظات أو دقائق وسينتهي) والكاميرات هي أعين الناس ونحن نؤدي دور البطل الحاذق الذكي الذي يجذب الأنظار بتمثيله ولباقة تصرّفاته في ذلك السيناريو، وتدريجيّا سنستطيع تطبيق تلك المهارات بشكل تلقائي في أيّ موقف، وفي الواقع كل شيء يبدأ بالتمثيل إذا كان يغلب على ردود أفعالك الانفعال السلبي أو الغضب كمثال، في البداية ما عليك سوى أن تمثّل بأنك لست غاضبًا إلى أن تكتسب صفة الحِلم.
ومن أجمل الأمثلة التي يمكن أن أقدّمها لكم في التنظيم والثبات الانفعالي هو ردّ سيدنا نوح عليه السلام على قومه، ففي سورة هود وردت الآيات: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَاءَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ (35)}.
انفعال سيّدنا نوح هنا انفعال ذكيّ ومتوازن جدًا إذ استخدم استراتيجيّة “إعادة التقييم المعرفيّ” فحوّل الموقف من تحدّ واستفزاز إلى أمر بيد بمشيئة الله فقال {إنّما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين}.
واستخدم استراتيجيّة “تعديل الاستجابة” عندما اتّهمه قومه بالكذب وافتروا عليه، ولم يُغضبه ذلك ولم يبرّر لهم بالدفاع عن نفسه، بل أجاب بكل ثباتٍ {قل إن افتريته فعليّ إجرامي وأنا بريء مما تجرمون}.
وفي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ.”
هذا الحديث في أعماقه لا يتحدّث عن الغضب فقط إنّما عن جميع المواقف العصيبة التي تواجهنا، من السهل جدّا أن نتبع هوانا وما يُمليه علينا عقلنا لأول وهلة، ولكن ما هو صعب فعلاً هو ضبط أنفسنا وانفعالاتنا وهذا يستحقّ منا كل جهد ومحاولة لذلك.
إرشادات عملية لتعزيز التنظيم الانفعالي في الحياة اليومية:
الوعي بالمشاعر:
خصّص وقتًا للتوقف وملاحظة مشاعرك قبل التصرف، اسأل نفسك: “بماذا أشعر الآن؟ وما سبب ذلك؟” هذا الوعي هو الخطوة الأولى للتحكّم في الانفعال.
تطبيق استراتيجيات التنظيم الانفعالي:
– حاول النظر إلى المواقف الصعبة من منظور مختلف يقلّل من حدة الانفعال.
– اختر ردود فعل هادئة وملائمة بدل الانفعال الفوري.
– ركّز على جزء من الموقف يمكن التحكم فيه أو انخرط في نشاط آخر يقلّل التوتر.
– ابتعد عن المواقف التي تثير انفعالات سلبية قدر الإمكان، واقترب من المواقف التي تمنحك شعورًا إيجابيًا.
التدريب على الصبر والهدوء:
مارس تمارين التنفّس العميق، أو التأمل، أو المشي الهادئ، فهذه العادات تساعد على تهدئة الجسم والعقل قبل الانفعال.
التعلّم من المواقف السابقة:
بعد أي موقف عصيب، راجع ما حدث: ما الذي نجح؟ ما الذي يمكن تحسينه؟ وكيف يمكن التعامل بشكل أفضل في المستقبل؟
المحافظة على الصحة الجسدية والنفسية:
النوم الكافي، والتغذية المتوازنة، وممارسة الرياضة تقلّل من حدة الانفعالات وتزيد القدرة على ضبط النفس.
التحلي بالمرونة والتقبّل:
تذكّر أن الحياة مليئة بالمواقف غير المتوقعة؛ فالتأقلم معها بحكمة وهدوء هو طريقك نحو السلام الداخلي.
يقول الشاعر أبو الطيّب المتنبّي:
ما كـلّ مـا يتمنى المـرءُ يدركــهُ
تجري الرياح بما لا تشتَهي السّفنُ
وختامًا:
التنظيم الانفعالي ليس مهارة لحظيّة، هو أسلوب حياة يرتبط بوعي الفرد لنفسه ومحيطه، وبقدرته على إدارة انفعالاته بشكل متوازن وهادئ، فكل موقف يمرّ بنا، سواء كان فرحًا أو حزنًا، تحديًا أو نجاحًا، هو فرصة للتعلّم والنمو، وإذا تعاملنا معه بحكمة وصبر ووعي، أصبحنا أكثر قدرة على التكيّف وتحقيق التوافق النفسي والاجتماعي.
تذكّر دائمًا أن القوة الحقيقية ليست في السيطرة على الآخرين أو على الظروف، بل في القدرة على السيطرة على النفس والانفعالات، ومع كل محاولة لتطبيق استراتيجيات التنظيم الانفعالي نقترب خطوة نحو حياة أكثر هدوءًا ووعيًا وسعادة.
فلنجعل من كل تجربة فرصة للتعلم، ومن كل تحدٍّ تدريبًا على ضبط النفس، ومن كل لحظة انفعال اختبارًا لصبرنا، لنعيش حياة متزنة، ممتلئة بالرضا والسلام الداخلي.
المراجع:
بلية، أنس مازن. (2025). التنظيم الانفعالي وعلاقته بإيذاء الذات غير الانتحاري لدى المراهقين في دور الأحداث [رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة عمان الأهلية]. دار المنظومة.
دخان، وطن إيهاب. (2024). استراتيجيّات التنظيم الانفعالي وعلاقتها بأنماط الشخصيّة لدى طلبة مرحلة الثانويّة [رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة عمان العربية]. دار المنظومة.
القرني، عائض. (20.4). لا تحزن (ط.١٤). مكتبة العبيكان.
نصار، عدي ناصيف محمد. (2018). التسويف الأكاديمي وعلاقته بالاستراتيجيّات التنظيم الانفعالي لدى طلبة جامعة حيفا [رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة عمان العربية]. دار المنظومة.









