سلوكات ملوَّثة منافية لثقافة مجتمعنا وقيمه وهويته يزداد انتشـــــــارها يومًا بعد يوم، كالاهتمام بالأزياء الأجنبية، وقصّات الشعر الغربية، وتفضيل الأطعمة الأجنبية، وتزيُّن الشباب بزينة النســـــاء كالعِقْد والأساور، وعدم تحمّل مســؤولية تصرفاتهم، وتدنّي مســــــتوى الاعتزاز بحضارتهم.
التلوث النفسي هو المصطلح الذي يعبّر عن تلك الســـلوكات التي تتنافى مع ثقافة المجتمع وقيمه وهويته، وهو مشكلة تنذر بالخطر؛ فكما يؤثر التلوث البيئي في الصحة الجسدية للإنسان، فإن التلوث النفسي يؤثر في صحته النفسية، وفي استقرار المجتمع.
مفهوم التّلوّث النفسي:
خُلق الإنسان على الفطرة، كصفحة بيضاء تتلوث بتراكم الملوثات الخارجية المحيطة به من خلال اكتساب سلوكيات ســـــــــلبية أو تنشئة اجتماعية وأسرية مفككة وغير سوية؛ لذلك تعمل على تلوّث الصفحة البيضاء النقية، ويصبح محتواها القيم الفاسدة غير الأخلاقية، والشاذّة عن المجتمع الذي يعيش فيه، وضوابطه وعاداته وتقاليده، لذلك تكون هذه الملوّثات بمنزلة ضغط نفسي على الفرد، ويصعب التحكم فيه؛ لأنّ العقل أصبح فريسة لهذا التّلوّث فتظهر في شكل سلوكيات سلبية تدمر النفس النقية التي خلق عليها الإنسان. (المزين، 2021، ص.14)
ذكر محمد (2004) أن مفهوم التّلوّث النفسي يُعدّ مفهومًا مستحدثًا في أدبيات العلوم النفسية والتربوية وغيرها ذات العلاقة، ولم تكن له سابقة، وهو يشير إلى وجود تلوّث في النفس على مستويي السلوك والفكر. (ص.27)
ووصفه بأنّه: مجموعة المدخلات السلبية التي يتبنّاها الأفراد سلوكًا وفكرًا، وتكون مميزة بالخصائص الآتية:
1. التنكُّر للهوية الحضارية والإساءة إليها: حالة التذمر والرفض للواقع الحضاري بكل خصوصياته، ومن ثَمّ التصريح بتقبيح ذلك الواقع.
2. التعلّق بالمظاهر الشكلية الأجنبية: حُبّ وتقبّل استعارة النماذج الشكلية الأجنبية، بِغضّ النظر عن واقعيتها في مجتمعه.
3. التخنث غير الموضوعي: التصرف بخلاف توقعات المجتمع لنوع جنسه الملاحظ أو بخلاف الدور المحدد له سلفًا في المجتمع، من حيث إنّ هذه التصرفات تكون غير متأثرة بعوامل فيزيولوجية.
4. الفوضوية: التصرف غير المسؤول والمخالف للقيم والأصول والأنظمة التي يحددها المجتمع. (ص.28)
يذكر حجازي (2005) أن الإنسان المقهور في حال التماهي بقيم المتسلط وأسلوب حياته هو ضحية عملية غسل دماغ مزمنة يقوم بها المتسلط، فهذا الأخير سواء كان محليًا أو أجنبيًا، يشنّ حربًا نفسية منظمة لتحطيم القيم الاجتماعية والحضارية للفئة المقهورة، تؤدي إلى ازدراء كل ما يمتّ إلى عالمه بصلة، كما تُزيَّن لها قيم المتسلط، أسلوب حياته، أدواته، تقنياته، كطريقة وحيدة ذات اعتبار في الحياة وفي تحقيق الذات، هذه الحملة المنظمة تحاصر الإنسان المقهور من كل جانب، في وسائل الإعلام، في الدعاية (كل الدعاية الحديثة تقوم على الإغراء بتقليد وجاهة الأجنبي أو ذوي الحظوة والنفوذ)، ونتيجة لهذه الحملة المنظمة والمستمرة التي تأخذ بعقل الإنسان المقهور وفؤاده كل مأخذ، وتحاصره من كل اتجاه، يتحول تدريجيًا تاركًا أصالته وغافلًا عن نوعية التغيير الفعلي الذي يحفظ له مصالحه ومستقبله، وهكذا يصبح إنسانًا مزيّفًا أسير المظاهر، باحثًا عن أقنعة الوجاهة من كل نوع يجده في تقليد الأسلوب الحياتي للمتسلط ومثله العليا.
عوامل التّلوّث النفسي:
الحروب:
الحروب وما يتبعها وما ينتج عنها من سلوكيات متطرفة لا تتوافق مع طبيعة المجتمع الذي نشأت فيه، وإن كانت هذه السلوكيات موجودة بالفعل في المجتمع، إلّا أنّها تظهر وتستفحل لتنتشر وتتوغّل داخل المجتمع بأكمله، حيث تزداد الفوضى وعدم احترام القانون، أو حتى عدم احترام حقوق الآخرين، كذلك فإنّ الحروب وما ينتج عنها من أزمات اقتصادية ونفسية واجتماعية، تتسبب في إحداث حالة من القلق والانفعال والخوف من المستقبل وترقّب الموت، وغيرها من الأمور التي تؤثر على البناء النفسي للأفراد في المجتمع وبخاصة الشباب ما يؤدي إلى تلويث نفوسهم. (عطية وحجازي، 2019، ص.99)
البطالة:
تؤدي البطالة غالبًا إلى العزلة الاجتماعية للعاطل، ومن ثمّ تضعف عنده القوى الاجتماعية، وتتضاءل قدرته على تحقيق التضامن مع المجتمع الذي يعيش فيه، ويترتب على ذلك ظهور حالة الأنومي Anomie عند العاطل التي تُفقده الالتزام بالمعايير والقيم الاجتماعية السائدة واحترامها فيرتكب الجريمة، وتؤدي العوامل النفسية التي تصاحب البطالة، لا سيما إذا طال أمدها، إلى آثار سلبية على تكوين شخصية العاطل وسلوكه النفسي والاجتماعي، ذلك أن البطالة تؤدي إلى تغذية وتقوية شعور الإحباط والفشل لدى العاطل، مما يؤدي مع تزايد هذا الشعور وتفاعله إلى توليد شعور نفسي عدائي نحو المجتمع والآخرين، ويدفع في النهاية إلى السلوك الإجرامي. (عجوة، 1985، ص.41-42)
اضمحلال دور الأسرة:
أصبحنا نعيش في مجتمع الأسرة الصغيرة المقتصرة على الأب والأم والأبناء، وذلك بحكم أنهم يعيشون في بيت واحد، إلا أنه في الواقع نجد الأب والأم مشغولين في العمل من أجل توفير الحياة الكريمة لأبنائهم، وبالتالي افتقدهم الأبناء أيضًا، وافتقدوا معه المصدر الرصين والصحيح، الذي يبث فيهم القيم والأخلاق والمبادئ والعادات الخاصة بالمجتمع، المرتبطة بالهوية الثقافية والاجتماعية والحضارية للمجتمع، فينشأ الأبناء رافضين كل ما له علاقة بالماضي، وينادون بالتخلص من تلك العادات والعقائد لأنها بالية ولا قيمة لها، وأنها سبب التخلف وعدم النهوض، وأصبح المرجع أمامهم لتعلم الفضائل والأخلاق والانتماء للأهل والوطن، والتعرف على العالم هو الإنترنت ووسائل الإعلام وجماعة الأقران. (عطية وحجازي، 2019، ص.100)
وسائل الإعلام والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي:
تعد هذه الأجهزة الحديثة هي الباب الذي يدخل منه الشباب، ويرى من خلالها ثقافات العالم نتيجة للعولمة، وانفتاحهم على ثقافات مختلفة مما يكسبهم عادات هذه الثقافة التي تتعارض مع قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا. (المزين، 2021، ص.15)
لم يشهد تاريخ العالم مثل هذا النشاط الإعلامي المرئي المعاصر بكل أنواعه، وإلى الحدّ الذي حوّل العالم إلى كرة زجاجية شفافة لا تخفى فيها خافية، وبالقدر الذي خدمته تلك الوسائل، اُستغلت من قبل المفسدين. (رمضان والجباري، 2015، ص.8)
بيّنت نتائج دراسة الحربي (2018) الآثار الفكرية لشبكات التواصل الاجتماعي من الناحية الاجتماعية، نذكر منها: الإحباط وعدم الاستقرار النفسي، واختراق خصوصية الأفراد، والتقليد الأعمى للنموذج الغربي في الشكل والمظهر، والفراغ الفكري المؤدي لأن يكون عرضة لأية أفكار متطرفة، والتمرد على الموروث الشعبي والعرف العام للمجتمع، والانقطاع عن صلة الرحم والزيارات العائلية للأسرة، والانهيار الأسري لمدمني شبكات التواصل الاجتماعي، وتناول موضوعات تافهة وغير مفيدة في المحادثات.
وأظهرت نتائج دراسة حمشو (2023) وجود علاقة ارتباطية موجبة[1] بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في مجالات (الترفيه، متابعة الأخبار والأنشطة التجارية، متابعة المحتوى الأجنبي) والتلوث النفسي.
يؤثر التلوث النفسي في الفرد والمجتمع، إذ يتسبب في تغيير جوهري في القيم والسلوك، ويُضعف الهوية الثقافية، وتعدّ الحروب، والبطالة، واضمحلال دور الأسرة، وانتشار وسائل الإعلام والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من أبرز العوامل التي تسهم في انتشاره.
وللحدّ من آثاره السلبية لا بدّ من وضع إستراتيجيات تهدف إلى تعزيز القيم، والتوعية بخطورة الاستهلاك العشوائي غير الممحوص لمحتوى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وتنمية التفكير الناقد، وينبغي أن تؤدي المؤسسات التعليمية والإعلامية دورًا فعّالًا في التحصين الفكري ونشر الوعي والوقاية من التلوث النفسي.
المراجع:
- حجازي، مصطفى. (2005). التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور (ط.9). المركز الثقافي العربي.
- الحربي، مبارك. (2018). وسائل التواصل الاجتماعي وآثاره الفكرية على طلاب جامعة الأمير سلطان بن عبد العزيز. المجلة العلمية بجامعة أسيوط، ٣٤(١١)، ١٥٤-١٨٢. https://search.mandumah.com/Record/952441
- حمشو، أحمد. (2023). مستوى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وعلاقته بالتلوث النفسي لدى طلبة كليات التربية في الشمال السوري [رسالة ماجستير غير منشورة]. جامعة حلب في المناطق المحررة.
- رمضان، هادي، والجباري، جنار. (2015). التلوث النفسي لدى طلبة كلية التربية وعلاقته ببعض المتغيرات. مجلة جامعة كركوك للدراسات الإنسانية، ١٠ (٢)، ١-٣٣. https://doi.org/10.32894/1911-010-002-001
- عجوة، عاطف عبد الفتاح. (1985). البطالة في العالم العربي وعلاقتها بالجريمة. المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض.
- عطية، رانيا، وحجازي، إحسان. (2019). العلاقة بين التلوث النفسي والاتزان الانفعالي ومستوى كل منهما لدى طلبة كلية التربية جامعة الزقازيق. مجلة كلية التربية بالزقازيق، (103)، 87-163. https://doi.org/10.21608/sec.2019.82453
- محمد، أسامة حامد. (2004). التلوث النفسي لدى طلبة جامعة الموصل [أطروحة دكتوراة غير منشورة]. جامعة الموصل.
- المزين، نجلاء. (2021). التلوث النفسي وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع. مجلة إبداعات تربوية، (17)، 14-18. https://doi.org/10.21608/eji.2021.160561
[1] دالة إحصائيًا