الذات السورية بين الواقع والافتراض: تشظي الهوية في عصر الرقمنة

في زقاق دمشقي قديم حيث الحجارة تهمس بحكايات قرون مضت، يجلس رجل سوري أمام شاشة جواله، كأنه على مفترق طريق بين زمنين: زمن الواقع الحالي، وزمن افتراضي يفتحه الفضاء الرقمي بخوارزميات خفية، عند هذه النقطة الدقيقة، تنشطر الذات السورية إلى كينونتين متوازيتين: واحدة تقاوم واقعًا بيئيًا وقيميًا متصدعًا، وأخرى تبني وجودًا رقميًا يعكس التمرد، التعويض، والتجريب المستمر.

في هذه السطور استقصاء حول هذا الانشطار، عن كيفية تشكيل الوسائط الرقمية للنفس السورية في ظل استقطاب طويل الأمد، وعن علاقة هذا التشكل بالتفكك الهوياتي والعنف الرقمي المستشري في فضاءاتنا الافتراضية.

الفجوة المتنامية بين الذات الواقعية والذات الرقمية ليست مجرد انعكاس للصراع، بل عملية إنتاج نشط لهويات بديلة تعوض الإحباط الواقعي وتعيد إنتاج الصراع باستخدام أدوات جديدة، ما يهدد النسيج الاجتماعي على مستوى الفرد والجماعة.

البيئة الواقعية: حاضنة الصدمات والهويات

تحدد البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في سوريا الإطار الذي ينشأ ضمنه الفضاء الرقمي، بعد عقدٍ وأكثر من المعاناة المتراكمة، يعيش السوريون في حالة صدمة جماعية مزمنة، يستمر الضغط النفسي الناتج عن التعرض للعنف وانعدام الأمن لفترات ممتدة (Herman, 1992).

هذه الصدمة تنتج ما يعرف بـ “الذات المنكفئة” – ذات تلتف حول دوائر دفاعية ضيقة، وتطور آليات تكيف تتراوح بين الإنكار والعدوان، ويزداد الأمر تعقيداً بتآكل المساحات العامة للتواصل، الانهيار والدمار، هشاشة الاقتصاد، والهجرات القسرية والنزوح، ما يجعل الفرد يعيش حالة انقطاع بين تجربته السابقة واليومية وسرديته الذاتية.

يؤكد أنتوني غيدنز (1991) أن الهوية في العصر الحديث هي “مشروع انعكاسي”، يبنيه الفرد عبر اختياراته، لكن في سياق الصدمات المزمنة، يتحول المشروع إلى معضلة وجودية، حيث تتعطل القدرة على بناء سردية متسقة للذات.

الذات الرقمية: فضاء الحرية والتمرد

تظهر الوسائط الرقمية كفضاء بديل لإعادة بناء الهوية، وفقًا لتيركل (Turkle, 1995)، الإنترنت يشكل “مختبرًا للهوية” يمكن فيه للأفراد تجربة أدوار متعددة، في السياق السوري تتجاوز التجربة مجرد التمثيل الافتراضي إلى إنتاج ذات بديلة تعوض النقائص الواقعية.

الذات الرقمية السورية غالبًا ما تكون أكثر جرأة وتطرفًا من نظيرتها الواقعية، فهي تمنح الوهم بالحماية واللاحصانة، مطلقة الدوافع المكبوتة، ومتحررة من قيود الواقع، هذه الذات الرقمية تصبح أيضًا أداة للسيطرة الرمزية: الفرد الذي فقد القدرة على التحكم في حياته الواقعية يجد في الفضاء الرقمي مجالًا لممارسة نوع من الوكالة، حتى عبر الخطاب العدواني.

التشظي الجماعي والعنف الرقمي

يمكن فهم تصاعد الخطاب العدواني في الفضاء الرقمي السوري عبر عدة آليات نفسية واجتماعية:

أ. الإسقاط والتبرير: يميل الأفراد إلى إسقاط الصفات غير المرغوبة على الآخرين (Freud, 1936). في السياق السوري، يتحول الغضب والعار إلى ديناميكيات اتهامية متبادلة، مدعومة بآليات تبرير تشوه صورة الخصم أخلاقيًا.

ب. التحيزات الإدراكية: يعمل “تأكيد الميول” و”تأثير الهالة” على تعزيز الاستقطاب الرقمي (Kahneman, 2011)، إذ يميل المستخدم إلى متابعة الحسابات التي تؤكد معتقداته قناعاته وتوجهاته، ما يقوي “غرف الصدى” ويحد من الحوار.

ج. التطييف والتجسيد: يتحول الصراع من خلاف فكري إلى صراع هوياتي، حيث تعيد ظاهرة التطييف تعريف الخلافات كصراعات وجودية بين جماعات مغلقة، ما يسهل تشيؤ وشيطنة الآخر وإنكار إنسانيته (Haslam, 2006).

د. تأثير اللامرئية والانفعال: يوفر التواصل الرقمي إحساسًا بالتحرر من القيود الاجتماعية، ما يفسر تصاعد الانفعال والتطرف في الخطاب الافتراضي (Suler, 2004).

الصدمة والذاكرة: البعد الجمعي

لا يمكن فهم تشكل الذات الرقمية بمعزل عن الصدمات الجماعية، فالصدمة تؤثر على النسيج المعنوي للمجتمع (Martín-Baró, 1994).

أعاد السوريون إنتاج ذاكرتهم الجمعية رقميًا، لكنها أصبحت متفتتة ومتنازعًا عليها، تنتج كل جماعة سرديتها الخاصة وتعيد تشكيل الذاكرة وفق روايتها الفرعية، ما يولد هويات متصدعة ويعمق الانقسامات، كما طورت الذات الرقمية آليات دفاع جماعية، تشمل التضليل والتشهير والإشاعات ونظريات المؤامرة، ما يزيد الهوة بين الجماعات ويقوض الحوار.

نحو ذات أخلاقية رقمية

يمكن بناء “ذات أخلاقية رقمية” لمواجهة دوامة الكراهية عبر:

  1. الاعتراف بالآخر المعقد:“الأنسنة”: تجاوز النظرة الأحادية للآخر والاعتراف بتعدد هوياته (Levinas, 1969).
  2. تفكيك خطاب الكراهية: تطوير محو الأمية الرقمية النقدية لتحليل الخطاب والتعرف على التحيزات.
  3. إعادة بناء المساحات المشتركة: خلق فضاءات حوارية آمنة تتجاوز التعبئة العاطفية الانفعالية، وتعتمد على القواسم الإنسانية المشتركة (Lederach, 1997).
  4. استعادة السرديات المتعددة: تشجيع سرديات تعكس تعدد التجارب السورية وتعقيدها، بدل السرديات الأحادية.

المصالحة مع الذات

لم تعد الذات السورية الرقمية مرآةً محايدة للصراع، بل أصبحت أحد محرّكاته الخفية؛ تُعيد تشكيل النار التي تحاول الهرب منها، وبين صورتين متوازيتين—واقعية مثخنة بالتصدعات، وافتراضية متورّمة بالادعاء—تتكشّف تلك الهوّة الهوياتية التي تبحث فيها النفس عن معنى يتفلت من قبضتها كلما اقتربت منه.

إنّ المعضلة الأخلاقية في هذا الزمن لا تقوم على مواجهة الآخر فحسب، بل على مواجهة النسخة الرقمية من أنفسنا: تلك النسخة التي تُغري بالسرعة، وتُسهّل الانزلاق الأخلاقي، وتُلبس الغضبَ قناع البطولة، والمصالحة الحقيقية تبدأ من هنا؛ من الاعتراف بأن العالم الافتراضي، رغم هشاشته، يترك ندوبًا لا تقل عمقًا عن ندوب الرصاص، وأن الكلمة المكتوبة على شاشة باردة قد تجرح كما يجرح الفقد نفسه.

هكذا تُصبح المصالحة مع الذات مشروعًا لإعادة وصل ما انقطع: أن نستعيد الإنسان في داخلنا قبل أن نطالب به في الآخرين، وأن نعيد للغة معناها قبل أن ننثرها جراحًا في فضاءات لا تتّسع لضمادة، حينها فقط يمكن للذات أن تتقدّم خطوة خارج دوّامة التشظي، وأن تبني جسرًا من معنى فوق هوّةٍ طال اتساعها، جسرًا يجمع بين واقعية الألم وكرامة الروح، وبين صخب الشاشة وصدق الحياة.

المراجع

Facebook
Twitter
WhatsApp