مع تسارع التطورات التكنولوجية وازدياد الاعتماد على الأجهزة الرقمية، أصبح الأطفال يقضون وقتًا طويلًا أمام الشاشات على حساب الأنشطة الحركية والاجتماعية الواقعية.
هذا التحول في نمط الحياة انعكس بشكل ملحوظ على نموهم الحركي والمعرفي والاجتماعي، مما يفرض علينا كمربين وتربويين مراجعة ممارساتنا وتوجيه أنشطتنا نحو دعم نموهم المتكامل، بما يتلاءم مع احتياجاتهم الطبيعية والتطورية.
يولد الطفل صفحةً بيضاء، مستعدًا لاكتساب الخبرات والمهارات عبر التفاعل مع البيئة المحيطة، ومع تعرضه للعوامل الثقافية والاجتماعية المختلفة، تبدأ ملامح نموه بالتشكل، إلا أن التحديات الحديثة أفرزت نمطًا جديدًا من التأخر النمائي يتمثل في ضعف المهارات الحركية الدقيقة، وانخفاض مستويات التركيز والانتباه، وتراجع مهارات التواصل الاجتماعي، ويلاحظ المعلمون والتربويون بشكل متزايد أن الأطفال يصلون إلى المراحل الدراسية المبكرة وهم يفتقرون إلى المهارات الأساسية التي تعد حجر الأساس لنجاحهم الأكاديمي والاجتماعي.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن الاستخدام المفرط للشاشات يرتبط ارتباطًا وثيقًا بانخفاض معدلات النشاط البدني اليومي، مما يؤثر سلبًا على التطور الحركي والنفسي للأطفال (Carson et al., 2020). كما أكد الباحثون أن الانخراط في اللعب الحركي المنظم وغير المنظم يسهم بشكل مباشر في تعزيز المهارات النمائية الأساسية مثل التآزر البصري الحركي، وحل المشكلات، والقدرة على التحكم بالذات هذه الأنشطة لا تقتصر فوائدها على الجانب الجسدي فقط، بل تمتد لدعم نمو العمليات المعرفية الأساسية، مثل الذاكرة والانتباه، والتي تُعد ضرورية للنجاح التعليمي.
في هذا السياق وبالذهاب إلى ما جاءت به الدراسات، أوصت منظمة الصحة العالمية للأطفال دون سن الخامسة ساعة بضرورة ألا يتجاوز وقت الشاشة ساعة واحدة يوميا،
(WHO, 2019) مع التأكيد على أهمية إدماج أنشطة حركية متنوعة ومتكررة تدعم النمو الحسي والحركي والمعرفي، كما أن المشاركة اليومية في أنشطة مثل القص واللصق، ترتيب الأدوات، واستخدام الألعاب التركيبية، تسهم في تطوير المهارات الحركية الدقيقة وتعزز التآزر الحسي الحركي بشكل فعّال.
بالإضافة إلى ذلك، يؤدي اللعب الحر في البيئات المفتوحة دورًا محوريًا في تنمية الفضول والاستكشاف الإيجابي، مما يدعم تطور اللغة، والمهارات الاجتماعية، والوظائف التنفيذية للدماغ (Gray, 2011) هذه الأنشطة الطبيعية تزود الأطفال بفرص ثمينة للتفاعل الاجتماعي المباشر، مما يعزز من مهاراتهم في التفاوض، التعاون، وحل النزاعات بطريقة صحية وآمنة.
ومن هنا، تبرز أهمية العمل على ايجاد بيئات تعليمية صحية ومتوازنة ترتكز على التفاعل الواقعي النشط وتقليل الاعتماد على الشاشات الإلكترونية؛ إذ إن دمج الأنشطة الحركية الدقيقة والمهام الحياتية البسيطة في الحياة اليومية للأطفال لا يسهم فقط في تنمية قدراتهم الجسدية، بل يُعزز كذلك من استقلاليتهم وثقتهم بأنفسهم، ويحد من التشتت والانطواء الاجتماعي.
إن الطفولة مرحلة تأسيسية حاسمة تتطلب وعيًا حقيقيًا باحتياجات الأطفال النمائية، ومن خلال تقليل وقت الشاشات وتعزيز النشاط الحركي المنظم واللعب الحر، يمكننا تمكين الأطفال من تطوير مهاراتهم بطريقة متكاملة ومتوازنة. وعليه، تقع على عاتقنا كمؤسسات تربوية وأسرية مسؤولية تبني سياسات داعمة لهذه التوجهات، بما يضمن بناء جيل أكثر توازنًا وقدرة على مواجهة تحديات المستقبل بثقة وكفاءة.
المراجع:
- Carson, V., Hunter, S., Kuzik, N., Gray, C. E., Poitras, V. J., Chaput, J. P., … & Tremblay, M. S. (2020). Systematic review of sedentary behaviour and health indicators in school-aged children and youth: An update. Applied Physiology, Nutrition, and Metabolism, 41(6), S240-S265. https://doi.org/10.1139/apnm-2015-0630
- Gray, P. (2011). The decline of play and the rise of psychopathology in children and adolescents. American Journal of Play, 3(4), 443–463.
- Poitras, V. J., Gray, C. E., Borghese, M. M., Carson, V., Chaput, J. P., Janssen, I., … & Tremblay, M. S. (2017). Systematic review of the relationships between objectively measured physical activity and health indicators in school-aged children and youth. Applied Physiology, Nutrition, and Metabolism, 41(6), S197-S239.
- World Health Organization. (2019). Guidelines on physical activity, sedentary behaviour and sleep for children under 5 years of age. https://www.who.int/publications/i/item/9789241550536