مساحات اللعب، مساحات الذات: كيف يصوغ الطفل روايته النفسية؟

اللعب ليس مجرد وسيلة للتسلية في مرحلة الطفولة، بل هو وسيط نفسي ومعرفي بالغ التأثير، تتشكل من خلاله البدايات الأولى لذاكرة الطفل وانفعالاته وتكوينه الذاتي؛ ففي لحظات اللعب ينفتح الطفل على مساحة داخلية وخارجية تجعله أقدر على فهم العالم والتفاعل معه، وعلى التعبير عن نفسه من دون تهديد أو قيد.

لا تأتي أهمية اللعب من كونه نشاطًا وقتيًا فحسب، بل من كونه عملية داخلية تعكس ما يدور في أعماق الطفل من تساؤلات، ومشاعر، ورغبات، ومن هذا المنطلق يُنظر إلى اللعب كأداة حيوية يصوغ من خلالها الطفل روايته النفسية الأولى، ويؤسس بها جزءًا من إدراكه لذاته وللعالم المحيط به.

لعل من أبرز ما يمنح اللعب هذا التأثير هو طبيعته التشاركية والتقمصية، فالطفل لا يلعب في عزلة، بل في سياق اجتماعي تفاعلي، سواء مع أقرانه أو ضمن خياله المرتبط بما يشاهده أو يسمعه أو يتخيله.

يتقمص الطفل، في هذه المساحة، أدوارًا متعددة: قد يكون معلمًا أو والدًا أو بطلًا خارقًا، يتنقل بحرية بين الشخصيات ويعيد تمثيل الأحداث بطريقة تمنحه إحساسًا بالقدرة والسيطرة، وهذه التجربة التمثيلية لا تُعد عشوائية، بل تحمل في طياتها بذور التنظيم الداخلي للهوية، وتُنمّي لدى الطفل القدرة على إدراك العلاقات والانفعالات، من خلال السيناريوهات التي يبتكرها ويتفاعل معها.

إضافة إلى ذلك، يرتبط اللعب عند الطفل بالحركة الجسدية والتآزر الحسي، ما يجعله تمرينًا نفسيًا وبيولوجيًا في آنٍ واحد، إذ إن انخراط الطفل في اللعب الحركي، وتسخير حواسه المختلفة، يعزّز من تكامله الذهني والعاطفي، ويفتح المجال أمامه لتفريغ التوتر والتعامل مع مشاعر يصعب التعبير عنها بالكلام، وقد يحمل اللعب في بعض لحظاته أثرًا استرجاعيًّا، إذ يعود الطفل عبره إلى ذاكرة مريحة تشكّلت خلال تجاربه الأولى، ويستحضر عبرها نوعًا من الطمأنينة الداخلية في مواجهة ما قد يعترضه لاحقًا من مشاعر ضغط أو قلق.

يمثل اللعب الحر نمطًا مميزًا في هذا السياق، إذ لا يقوم على قواعد محددة أو تعليمات خارجية، بل يترك للطفل حرية قيادة التجربة، وصياغة محتواها، والتوسع في عناصرها، في هذا النوع من اللعب، تُتاح للطفل فرصة بناء سيناريو خاص ينمو ويتطور بحسب مزاجه وخياله اللحظي، يبدأ من فكرة بسيطة، ويضيف إليها شخصيات أو أحداثًا أو رموزًا، فتتشكل قصة ذات بنية داخلية تعبّر عن ذاته، سواء كانت هذه القصة عفوية أو مقصودة، وهذه الديناميكية تكشف عن وظيفة سردية مهمة للعب، إذ يمكّن الطفل من تنظيم انفعالاته من خلال التخييل، ويمنحه فرصة غير مباشرة لفهم ذاته وموقعه من العالم.

أما اللعب المنظم، رغم فائدته في تنمية مهارات مثل التعاون والانضباط، فإنه يبقى أقل قدرة على احتضان الانفعالات الحرة؛ فعندما يخضع اللعب لقواعد صارمة وأهداف تعليمية واضحة، يتقلّص فيه مجال التعبير الشخصي، ويتركز على الأداء والنتيجة؛ من هنا تظهر أهمية التوازن بين النوعين، مع إعطاء مساحة أكبر للعب الحر، لا سيما في السنوات الأولى من النمو، حيث تكون الذات في طور التكوين، والخيال في أوج نشاطه.

لا تتوقف قيمة اللعب عند نوعيته، بل تمتد إلى طبيعة البيئة التي يُمارس فيها؛ فالبيئة الغنية لا تُقاس بعدد الألعاب أو تكلفتها، بل بمدى ما تتيحه من تلقائية وحرية، اللعب في الطبيعة، أو ضمن فضاء مفتوح يتيح للطفل استكشاف التفاصيل الصغيرة، قد يكون أكثر أثرًا من أي غرفة مجهزة، ما يصنع الفارق هو الإحساس بالانطلاق، والقدرة على المبادرة، وإمكانية التفاعل دون تقييم مباشر أو توجيه مستمر.

يشكّل اللعب، من هذا المنظور، عنصرًا أساسيًا في بناء المرونة النفسية، إنه يساعد الطفل على اختبار ذاته، وتطوير أدواته الداخلية، وبناء سردياته الخاصة التي تمكّنه من التكيف، والتحكم، واستيعاب ما يمر به من خبرات، الطفل الذي يُمنح حق اللعب بحرية وكرامة، يكتسب داخليًا تصورًا إيجابيًا عن قدرته على المبادرة والسيطرة والتخيل، أما الطفل الذي يُقيد أو يُوجّه باستمرار أثناء اللعب، فقد يفقد جزءًا من تلك الديناميكية الداخلية التي تُعد ضرورية للنمو النفسي السليم.

ومن هنا، فإن حماية هذا الحق، وتوفير المساحات الحقيقية للعب الحر، ليست مسألة تربوية فحسب، بل تعكس احترامًا لاحتياجات الطفل النفسية وقدرته الطبيعية على النمو من الداخل إلى الخارج.

إن إتاحة المجال للطفل ليعبّر عن نفسه من خلال اللعب، تعني أننا نمنحه فرصة ليكتشف، ويجرب، ويخطئ، ويعيد المحاولة، وحين يُتاح له ذلك، تنشأ داخله رواية خاصة، تتشكل من التلقائية والخيال والانفعال، وترافقه بهدوء في مراحل الحياة المختلفة، وما يبدو بسيطًا كركض في الحقول أو تمثيل دور خيالي، قد يكون هو ما يمنح الطفل توازنه، ويعينه على أن ينمو بثقة، وأن يواجه الحياة كما هو، دون تكلّف أو ضغط، بل بإحساس أصيل بذاته.

Facebook
Twitter
WhatsApp