حين تُزْهِر المروحية وتنطفِئ الاستجابة الشرطية (رؤية من منظور الإشراط الكلاسيكي في المدرسة السلوكية)

صورة المروحية وصوتها اقترنا لدى كثير من السوريين بالخوف والرعب، إذ حدث إشراط سلبي خلال السنوات الماضية باقتران صوت المروحية وصورتها بالقصف والبراميل المتفجرة ما يؤدي إلى الخوف، ولطالما سبق صوت المروحية صوت براميلها ورصاصها، وبتكرار الاقتران خلال السنوات الماضية ازدادت الاستجابة قوة.

أضع في هذه المقالة رؤيتي للمشهد من منظور الإشراط الكلاسيكي لدى بافلوف في المدرسة السلوكية، إذ تتعرف، عزيزي القارئ، إلى الإشراط الكلاسيكي، وتجربة بافلوف، والانطفاء، ثم ننتقل معًا بعد ذلك إلى تطبيق هذه المفاهيم على مشهد المروحية التي تلقي الورود في سورية في شهر آذار عام (2025).

الإشراط الكلاسيكي:

تُعَدّ نظرية الإشراط الكلاسيكي من أقدم النظريات السلوكية التي حاولت تفسير ظاهرة التعلم، وتهتم بقضية محورية وهي تفسير كيف يمكن لاستجابة معينة تحدث غالبًا بعد مثير محدد أن تحدث نفسها بعد مثير آخر ليس له صلة بتلك الاستجابة، ويعود الفضل في ظهور النظرية إلى العالم إيفان بافلوف (Ivan Pavlov). (العتوم وآخرون، 2014، ص.92)

الإشراط الكلاسيكي عملية اقتران بين مثير محايد ومثير غير شرطي (طبيعي)، إذ يتمكن المثير المحايد من استدعاء الاستجابة التي يستدعيها المثير غير الشرطي، وعندها يسمى المثير المحايد مثيرًا شرطيًا وتسمى الاستجابة التي يستدعيها استجابة شرطية (متعلَّمة). (أبو غزال، 2015، ص.101)

نكوّن في حياتنا العديد من الارتباطات بين المثيرات والاستجابات، التي تؤدي دورًا في تشكيل سلوكاتنا ومواقفنا ومشاعرنا، وتتكون مشاعر الخوف أو الحب أو الكراهية تجاه شيء أو ظاهرة أو حدث معين من خلال عملية الإشراط. (AmitArrawatia &Kumar, 2019)

تجربة بافلوف:

استخدم بافلوف في تجربته الشهيرة صوت الجرس كمثير (محايد) قدَّمه ولاحظ عدم ظهور أية استجابة من الكلب حِيال هذا المثير (صوت الجرس)، ثم قدَّم صوت الجرس، وأتبعه بتقديم الطعام (المثير الطبيعي)، ما أدى إلى سيلان اللعاب وهي استجابة طبيعية غير متعلمة، كرّر بافلوف عملية تقديم صوت الجرس (المثير المحايد)، وبعده مباشرة قدَّم الطعام (المثير الطبيعي) لعدد من المرات، الأمر الذي أدى في النهاية إلى أن يستجيب الكلب بإفراز اللعاب لمجرد سماع صوت الجرس نتيجة الاقتران المتكرر بين صوت الجرس وتقديم الطعام، فالكلب تعلّم أن يستجيب للمثير المحايد (صوت الجرس) بالاستجابة نفسها التي يصدرها للمثير الطبيعي، وفي ضوء ذلك أصبح صوت الجرس مثيرًا شرطيًا واستجابة سيلان اللعاب التي يستجرها هي استجابة شرطية، وهذا يشير إلى أنَّ المثير المحايد (صوت الجرس) اكتسب صفة المثير الطبيعي (الطعام) حيث أصبح قادرًا بعد الإشراط على استجرار الاستجابة التي يحدثها المثير الطبيعي. (منصور ورزق، 2005، ص. 105)

الانطفاء:

عندما تُكتسب الاستجابة الشرطية، ما الذي يمكن فعله للتخلص من هذه الاستجابة؟، إن الإجراء السهل جدًا الذي يمكن القيام به هو تقديم المثير الشرطي دون أن يتبعه المثير غير الشرطي؛ لذا يعد تقديم المثير الشرطي دون المثير غير الشرطي عاملًا مهمًا جدًا للتخلص من الاستجابة الشرطية. (العتوم وآخرون، 2014، ص.97)

لاحظ بافلوف أنه إذا قُدِّم المثير الشرطي (مثل صوت الجرس) عدّة مرات دون تقديم الطعام، فإن شدة الاستجابة الشرطية (اللعاب) تبدأ في التناقص، وكذلك احتمالية ظهورها، وتُعرف هذه العملية -أي الاختفاء التدريجي للاستجابة الشرطية أو تفكك الارتباط بين المثير والاستجابة- باسم الانطفاء. (AmitArrawatia &Kumar, 2019, p.473)

يتضح مما سبق كيف تحدث الاستجابات الشرطية وكيف تنطفِئ؛ فبتكرار تقديم المثير الشرطي دون المثير غير الشرطي تبدأ الاستجابة الشرطية بالانطفاء تدريجيًا، وفي ضوء فهم الإشراط والانطفاء ننتقل إلى مشهد المروحية والورود؛ لنفسر المشهد تفسيرًًا علميًا بالاستناد إلى تلك المبادئ.

مشهد المروحية والورود من منظور الإشراط الكلاسيكي:

حدث إشراط سلبي خلال السنوات الماضية من خلال اقتران صوت المروحية وصورتها (مثير محايد) بالقصف والبراميل المتفجرة (مثير مخيف بطبيعته) ما أدّى إلى الخوف (استجابة شرطية).

يبدأ الانطفاء اليوم من خلال تكرار خروج المروحية بدون قصف وبدون براميل، ويحدث محو الخوف واستبداله تدريجيًا من خلال اقتران صوت المروحية وصورتها بالورود والأشياء الجميلة (إشراط جديد إيجابي)، وفي كل مرةٍ تُلقى فيها الورود من المروحية نخطو خطوة مهمة نحو الانطفاء وتكوين الإشراط الإيجابي الجديد والتعافي، والشكل الآتي لتوضيح ذلك:

توصيات:

يتبيّن، في ضوء العرض السابق لأبرز النقاط في الإشراط الكلاسيكي، وتفسير مشهد المروحية والورود وفق ذلك، كيف يمكن للتدخلات المدروسة أن تُسهم في انطفاء الاستجابات الشرطية السلبية وتكوين استجابات جديدة إيجابية، وبناءً على ذلك أضع التوصيات الآتية التي تُعزز فاعلية هذه العملية، وتدعم جهود التعافي النفسي على مستوى الفرد والمجتمع:

  1. تكرار ربط المثيرات التي كانت تُثير الخوف (كصوت المروحية وصورتها) بمثيرات إيجابية ومحببة للناس (كالورود ونحو ذلك)؛ لمحو الاستجابة السابقة، وتكوين استجابة جديدة، فمن خلال التكرار المنظم والاقتران بمثيرات إيجابية يمكن تحويل رموز الرعب إلى رموز أمان.
  2. التدرج في التعرض لصوت المروحية وصورتها، ومن المفيد أن يبدأ التعرض في بيئات آمنة وهادئة.
  3. التعاون بين الاختصاصيين النفسيين ومؤسسات المجتمع لتصميم برامج تساعد على إعادة تشكيل الاستجابات، من خلال استخدام المثيرات السابقة في سياق جديد إيجابي، ما يمثل خطوة مهمة لتعزيز التعافي الجماعي.

المراجع:

أبو غزال، معاوية. (2015). علم النفس العام (ط.2). دار وائل للنشر.

العتوم، عدنان، علاونة، شفيق، الجراح، عبد الناصر، وأبو غزال، معاوية. (2014). علم النفس التربوي النظرية والتطبيق (ط.5). دار المسيرة.

منصور، علي، ورزق، أمينة. (2005). علم النفس التربوي. منشورات جامعة دمشق.

Kumar, M, &AmitArrawatia, M. (2019). Classical Conditioning Theory of Learning. International Journal of Management, 9(7), 472-475. https://www.ijmra.us/project%20doc/2019/IJMIE_JULY2019/IJMIEJuly19-ManojByM.pdf

Facebook
Twitter
WhatsApp