جدلية “البطولة” وسقوط المعيار
من المفارقات اللافتة في عصرنا الرقمي هي التضخيم المُمنهج للأفعال التي لا تبرح حدود الواجب الإنساني والأخلاقي الطبيعي أن يُعيد شرطي مبلغاً من المال أو يُعين موظف مُسناً في عبور الشارع، لم تعد هذه الأفعال مجرد “سلوك سوي”، بل تحولت بفعل آلة الميديا إلى “بطولات “ تُستهلك وتُتداول بلهفة، هذا التحوّل يُشير إلى ظاهرة أعمق وأكثر خطورة تُلامس جوهر “المرونة الأخلاقية“ للمجتمع
“تشيُّؤ الواجب” Reification of Duty
إننا لا نشهد احتفاءً بالخير بقدر ما نشهد تجريداً للواجب من كونه قاعدة عضوية ليُصبح سلعة قابلة للعرض والبيع، تتطلب هذه الظاهرة، بمنعطفها النفسي والاجتماعي الحاد، قراءة تحليلية معمقة من منظور علم نفس الأخلاق، لا لوصف الظاهرة، بل لتفكيك آليات الوعي التي تُنتجها.
الانهيار الإدراكي: عندما يُصبح الطبيعي استثناءً
إن أول ما يكشف عنه تضخيم الأفعال العادية هو تآكلٌ كامن في المعيار الأخلاقي الذي يُفترض أن يحكم التفاعل المجتمعي، إن التسليم بأن الواجب هو الحد الأدنى للسلوك الأخلاقي، كما أشار إليه (Kohlberg, 1984) في نظريات التطور القيمي، قد اهتزّ بعنف.
تدهور عتبة “الاستقامة المفترضة“
عندما يُصبح الاحتفاء بالحد الأدنى من السلوك الإيجابي هو القاعدة، فإن ذلك ينطوي على اعتراف ضمني بأن التوقع النفسي الأساسي قد انحدر إلى مستوى التقاعس أو السوء، لقد تدهورت عتبة “الاستقامة المفترضة” (Assumed Decency)، وأصبح المجتمع يُعالج القاعدة كاستثناء يستدعي الهلوسة الإعلامية، هذا الانهيار لا يُضعف الثقة البينية فحسب، بل يُجبر الفرد على العيش في حالة من اليقظة الدفاعية المُستنزِفة، إذ لا يمكنه الافتراض المسبق بحسن نية الآخرين.
انزياح البوصلة الكانطية
فلسفياً ونفسياً، يُمثل هذا التضخيم انزياحاً عن جوهر الواجب الأخلاقي (Moral Imperative) الكانطي؛ فالواجب يُفترض أن يكون قانوناً داخلياً مُلزِماً (الواجب لأجل الواجب)، لا يتطلب دافعاً خارجياً أو تصفيقاً جماهيرياً. أما اليوم، وفي ظل هيمنة ثقافة “رأس المال الاجتماعي“، يُحوَّل الواجب إلى سلعة تُقايض بالـ “إعجابات” و”المشاركات”. هذا التحول الجذري يُشكل تهديداً مباشراً لـ الاستقلالية الأخلاقية (Moral Autonomy) للفرد، إذ يُصبح الدافع ليس قناعة ذاتية، بل توقعاً للمكافأة الخارجية المشروطة، هذا هو التشيُّؤ بعينه: تحويل الفعل القيمي إلى قيمة سوقية.
سيكولوجيا الاستهلاك والتهدئة الوجدانية
لا يمكن فهم هذه الظاهرة دون الغوص في سلوك الجمهور المستهلك والآليات النفسية التي تُغذي هذا الاستهلاك:
أ. الفصل الأخلاقي والتطهير الزائف
يمكن تفسير انجذاب الجمهور لهذه القصص من خلال آلية “الفصل الأخلاقي الانتقائي” (Selective Moral Disengagement) التي وصفها (Bandura, 2002). إن استهلاك قصص “بطولة الواجب” يُقدم للجمهور مخرجاً نفسياً سهلاً؛ فهو يُحقق لهم “التطهير الوجداني الزائف“، أو ما يُعرف بـ “الإشباع الوجداني السريع“. بمجرد الإشادة الحماسية بالبطل العادي، يشعر المستهلك بأنه قد أدّى دوره الأخلاقي، مما يُعفيه ضمناً من التفكير في التحرك الأخلاقي الفعلي الذي قد يتطلب جهداً حقيقياً أو تضحية في حياته الخاصة، هذا الفصل الانتقائي يُبقي المجتمع في حالة خمول، مُكتفياً بتخدير نفسه بقصص الإلهام السطحية.
ب. إدمان النماذج المُبسطة
في مواجهة مشكلات اجتماعية معقدة ومُتشابكة (كالفساد أو التدهور المؤسسي)، يميل العقل البشري، نفسياً، إلى البحث عن النماذج المُبسطة التي تُعيد له شعوراً بالسيطرة، قصة “البطل العادي” تُلبي هذه الحاجة بشدة: الخير فردي وسهل التحقيق هذا التبسيط يُحوّل الانتباه، ببراعة، عن ضرورة “الإصلاح الهيكلي“ نحو “الاستثناء الفردي“، مُرسخاً اعتقاداً خاطئاً بأن النجاح الأخلاقي هو صدفة فردية وليست نتاجاً لمسؤولية جماعية ومنظومة أخلاقية متماسكة (Piliavin et al., 1981).
الانعكاس على المرونة والصحة المجتمعية
إن أخطر تداعيات تشيُّؤ الواجب تكمن في تأثيره الهادئ على بنية المرونة النفسية المجتمعية :(Social Resilience)
أ. تحجيم البطولة الحقيقية
عندما يُسوّى إعادة مفتاح ضائع بالعمل الشجاع لـ “مُبلّغ عن فساد “ يُعرض حياته المهنية للخطر، فإن هذا يُحدث تشويهاً إدراكياً كارثياً لمفهوم التضحية، البطولة الحقيقية هي تلك التي تتضمن تكلفة نفسية واجتماعية عالية، وتتطلب شجاعة للمقاومة. التضخيم العشوائي يُقلل من القيمة الرمزية لأفعال الشجاعة الأخلاقية الأصيلة، ويُرسخ بدلاً عنها “ثقافة الأمان الأخلاقي“، حيث لا يُكافأ إلا الفعل السهل والآمن، وهذا يُشجع على التقاعس في المواقف التي تتطلب شجاعة حقيقية.
ب. تآكل الثقة كقاعدة تنموية
إن المجتمع الذي يتفاجأ ويعجب بإعادة الأمانة هو مجتمع تتضاءل فيه الثقة البينية (Interpersonal Trust) عندما تُصبح الأمانة استثناءً يُنشر، فإن الفرد يفقد القدرة على الافتراض بأن الآخرين سيتصرفون بنزاهة في غيابه؛ الثقة، كما يُجمع علماء التنمية، هي الوقود النفسي لأي تقدم مجتمعي؛ وبدونها، تتوقف عجلة التعاون، وتُهدر الطاقات النفسية على التوجس والرقابة.
استعادة هيبة الواجب
إن قراءة ظاهرة “تشيُّؤ الواجب” ليست مُجرد ترف فكري، بل هي دعوة مُلحة لـ “استعادة هيبة الواجب“ كقيمة صامتة وأساسية، يجب أن نُدرك أن الواجب ليس عملاً بطولياً، بل هو الضرورة الوجودية للحياة المشتركة، المجتمع لا يُبنى على استثناءات مُبهرة، بل على قاعدة صلبة من النزاهة اليومية التي لا تطلب شاهدًا سوى الضمير، إن الارتقاء بالمرونة النفسية المجتمعية يقتضي منا أن نرفع سقف التوقعات، وأن نُسلط الضوء على الأفعال التي تتطلب شجاعة نفسية عميقة ومقاومة للتيار، لا مجرد توثيق لعمل عادي، عندها فقط، ننتقل من مرحلة استهلاك البطولة الزائفة إلى مرحلة ممارسة الفضيلة الرصينة.
قائمة المراجع
Bandura, A. (2002). Selective moral disengagement in the exercise of moral agency. Journal of Moral Education, 31(2), 101-119.
Kohlberg, L. (1984). The psychology of moral development: The nature and validity of moral stages (Vol. 2). Harper & Row.
Piliavin, J. A., Dovidio, J. F., Gaertner, S. L., & Clark, R. D. (1981). Emergency intervention. Academic Press.









